شعار قسم مدونات

رحلتنا مع الكلمات

blogs كتابة

تتفلت أفكارنا على الأوراق حروفا تنسج معانٍ ثارت في دواخلنا وفرضت علينا تقبُّل حملها لأسمائنا إلى الأبد. فما حيلتنا أمام هواجس لجلجت في نفوسنا فمزقت هدوءها، وصرخت في ضمائرنا فاستشاطت نارها، واقتحمت أبواب مشاعرنا فاستوطنتها، وفرضت على عقولنا منطقيتها البسيطة فتملكتنا، وقاومت كل هجمات النسيان وظفرت؟

 
أفكارنا التي صمدت فأنجبناها حبرا على ورق أو منشورا على الفيس بوك أو مقالا هنا أو هناك. أفكار التي تناثرت عن صمتنا وأصداءُ نفوسنا تتردد فيها؛ لتكون أكثر من مجرد أحرف رصفت بانتظام ورتابة، لتكون أكثر من هواجس ناضلت ذواتنا فانتصرت، وتغذت على سرائرنا فانتشرت، لتكون مناراتٍ تتطاير هنا وهناك نافثةً معانٍ أينما حلَّت وارتحلت، لتحملنا معها في تجوالها الرحب بين الألسن والعقول والنفوس فتجعلنا جزءاً من غيرنا لا ينفك عنا، جزءاً منا نملكه ولا نتحكم فيه. لنعيش في صدور الآخرين وعقولهم، لنعيش في ظروف مختلفة وأراض مختلفة وزمان مختلف. زارعةً بذورنا في غيرنا، في أرض غريبة وجو غريب وفلاح غريب، لترتبط فينا وتنعتق عنا إلى غير رجعة، لتعتاش وتنمو على أفهام الآخر، ومتاهات الآخر، وأهداف الآخر.

 
ومن قال إن الكتَّاب يعيشوا حياة واحدة وهم يخرجون من أرحام الكتب إلى أحضان العقول كل مرة ترى فيها العيون أحرفا حبكوها. كيف يعيشوا حياة واحدة وهم يُولدون ويَتوالدون ملايين المرات؛ بألف لغة وألف شكل وألف بلد، فيعيشوا أزمنة لا تنتهي. تنسُجهم أفهام الآخرين وتتلاعب بهم ظروفهم وتُكسينا مشاعرهم بما شاءت حبا أو كرها، ننتقل عبر الزمن صما بكما عميا لنكون أُسارى تصوراتهم وتوجهاتهم، ننتقل بكل قوة ووضوح لنولد بمنتهى العجز والخضوع.

 

أقف على مفترق طرق، تحثني همة الشباب وروحهم على المضي باندفاع وحماسة، وتكبحني أثقال المسؤولية التي يتوجب علي أن أتحملها باقتدار، الحيرة لا زالت تُكبِّلني بأغلالها

ولكن المصيبة ويا لها من مصيبة إن عقتك بذور اغتذت منك واكتست بروحك، أن تلعنك كلمات عجنتها بما طاب من نواياك وصدق سرائرك، أن تعجز عن حماية كلماتك من هوى نفس طائشة لا ترى في غير كلماتك وكلمات الآخرين إلى ذرائع وأساسات للظلمة التي تعشعش في نفوسهم. 

 

كنت في ما مضى ويالني من ساذج أكتب لمن سيفكك تلك الإشارات التي أنثرها بين الأحرف ويستوعبها أكثر مني، كنت أكتب لمن ليس ينجبني كما أنا فقط بل يؤسس على تلك الكلمات أفكارا عظيمة لتكون تلك الأحرف موانئ تبحر منها سفنه للآفاق، كنت أكتب لمن سيحرر تلك الهواجس التي كبَّلتها بالأوراق ويرقى بها ومعها إلى مستوى آخر. كنت أكتب لمن سيتفهم واقعي ويقدر ظروفي ويراعي قدراتي، كنت أكتب لمن سيرعاني بداخله شرنقة لا مشنقة، لمن يسمح لي بأن أكون صدى الماضي لا كلمة الحاضر، دليلا على الطريق وليس طريقا من دون دليل، لمن لا تسحره الأحرف فيتيه بها بل لمن يغترف أحسن ما فيها ويزيدها، ولكنني صدمت بمن سينطق كلماتي في غياهب منطقه العليل كيفما شاء، ليشوه ميلادنا فيه ويبرر لنفسه متاهاتها.

 
الكتابة رحلة حقيقية في الزمان والمكان، رحلة محفوفة بجنون المخاطر وتهجُّم الصعوبات ومتاهات الاحتمالات، رحلة يمكنك أن تحيي بها أمه وتبني بها حضارة وتقيم فيها العدل، ورحلة يمكنك أن تقضي بها على جيل كامل وتهدم بها حضارة وتغذي بها الظلام، كيف لا وتلك الكلمات التي نثرثر بها مع صفحاتنا ستنقلك عبر الزمن لتولد من جديد، لتحمل لحياتك معانٍ لا نهائية.

 
لم تكن تغريني تلك الحياة الدافقة بين أسطر الكتب، ولكنها تقنعني بضرورتها يوما بعد يوم، ولو أنني لا أميل إلى قراءة الروايات بأنواعها فكيف بكتابتها ولكنني أفكر بأن إنارة أفكارك على شكل حياة وأحداث ووقائع يحميها من تلك المتاهات التي يمكن أن تجد فيها نفسك في عالم النفوس المريضة، وليس بعد أن تموت فقط ولكن وأنت على قيد الإجابة.

 
أقف على مفترق طرق، تحثني همة الشباب وروحهم على المضي باندفاع وحماسة، وتكبحني أثقال المسؤولية التي يتوجب علي أن أتحملها باقتدار، الحيرة لا زالت تُكبِّلني بأغلالها. فأنا وإن كان يسرني أن تُنقل كلماتي، فإنه يشرفني ويبهجني أن ينسبها الآخرون لأنفسهم، لأن تلك الولادة هي الولادة التي أريدها، تلك هي الحياة التي تستحق الكتابة.

اللهم ألهمني الرشد من أمري والسداد بالقول والعمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.