شعار قسم مدونات

أيهما أحق بالبقاء.. حبيب أم كبرياء؟

blogs الحب

جمع أشلاء قلب أدمته الكدمات، رحل بعيدا يبحث عن معالم حياة، لكن بعد ماذا؟! أبعد أن فقد الثقة في الذات! جرت الأيام ببطيء في عز ذلك الشتاء، حسم أمره ألا يعود مجددا، حاول البحث عن طرق النسيان، بالبعد حين وبالبديل حين أخرى، لم تجدي طويلة قصيرة جميلة حسناء، متعلمة أم لا، كل تلك بدائل من النساء ربما تنسيه ألم الداء وتمنحه الشفاء. بعضهن كان ينسى حتى اسمهن بعد مرور الدقائق.

بعد مدة أيقن أن جمر تلك الحرائق لا تطفئه مكامن اللذات ولا مواطن الشهوات، حتى وإن تغيرت المُغريات، بل تداويه وقفة مع الذات، وبكاء طويل على كل ما فات، ليستطيع العودة إلى سكة الرشد. وكانت ما مرت من السنوات كفيلة بأن ينسى مُسَبِبَ الجراحات، لكن من يَسْطِعُ أن ينسيه تلك المعاناة. أقسم بأغلظ الأيمان أمامي أكثر من مرة أنه لن يسقط في جُرمِ الحب ما كان له من أجل في الحياة، لم ينكث وعده كل تلك المدة، وليصيبه بعدها الغرور بأن قلبه أصبح عصيا على ما يسمونه حبا، متناسيا طبعه البشري، وأن للحب سلطان أمره مقضي ومسموع.

ولم يستأذنه الحب إلا وقد تمكن منه وأخد منه ما أخد، رأى في عينيها سحرا لم يقوى على مجاراته، حتى أنه لم ينتبه أن الكل عرفوا ما بقلبه إلا هو وترجموا أحاديث العيون، وهو لا زال يظن بنفسه الظنون. وما اكتشف ما به إلا وقد كان بها مفتون. حاول تدارك الأمر سريعا بأن يؤطر كل شيء ويضعه أساس سليم. وأولاها أن يكون صريحا. وسلمها الفؤاد كتاب مفتوحا تقرأ فيه ما تشاء، ويدلها كالأبله على مواطن الضعف والقوة لديه، ويقول ها هنا أذنبت وها هنا جَنَيْت، وها هنا كنت أنا الضحية فيما أمْضَيت. وحذرها من أن أخوف ما يخاف منه هو الخيانات وألا مشكلة لديه فيما كان من أخطاء البدايات، خالعا رداء الرجل الشرقي. الذي يحب بأن يكون الأول والأخير والأوحد في المسير.

العلاقة إن لم تكن متكافئة سقطت. والكبرياء والعشق لهما فلكان مرسومان لا يبغي أحدهما على الأخر، كالأرض والقمر. فإن اختل الخيط الناظم بينهما صار الحب ذلا

سردت له ما تريده هي، أن يعرف عن ما مر في حياتها، أعجب بصراحتها وطلب بعد ذلك يدها.. انبهار.. صدمة.. إعجاب.. هو ما يمكن أن يستشف من محياها، حين أقبل عليها هكذا ثم خوف من سرعة الطلب. رسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها بكل أدب، ليسترسل بسرعة في القول: أني لست البطل الذي كنت تتمنين، أدري. أني لست وسيما بالشكل الذي يبهرك، أدري أني أبدوا أحمقا كذلك أدري. وأنك لا تحبينني، لا بأس إن كان هذا قدري. لكن ما عساي أفعل فالحب غلب على أمري. ولا أريد شيئا من دنيتي إلا أن تصيري زوجتي، وأُقْسِمُ على ذلك بعُمري. ولك من الوقت ما تشائين لتفكري.

عَرفَها بأصله وفصله وعمله، وعشيرته. ناقشا مكان السكن بعد الزفاف، وناقشا حفل الزفاف، تناقشا في الحجاب واللباس، طالعته على حفل زواج صديقتها وعن إعدادها له، وعما يجب أن تنتبه له، إِنْ بدأت هي في الإعداد لحفل زفافها. واختارا افتراضا أسماء طفليهما. ساعدها في امتحان وظيفتها كان خائفا ينتظر نتيجتها. لأن فشلها كان يعني كما أخبرته سالفا سفرها خارج الوطن. أُعْلِنَت النتيجة ونجحت وألغي أو أجل السفر، فرح وبدأ يتوقع القرار المنتظر، ومضت الأسابيع وهو لا زال يسأل كل يوم أين القرار. إلى أن مل الانتظار فأعطاها أجلا لتختار، متصرفا أبيات لنزار.

مرهقة أنت وخائفة وطويل جدا مشواري
لكن لا يمكن أن أبقى أبدا كالقشة تحت الأمطار
فاختاري سيدتي الموت على صدري أو الموت فوق دفاتر أشعاري.

كم هو خالد "نزار قباني" بكتاباته، فرغم موته لا زال ينهل العشاق من دواوينه. جاء الأجل وتمتمت بموافقة خجولة، لا تعكس على حد وصفه صِدقا، من يريد أي يشاركك المفرح والمقرح. حماستها للأمر ليست بحجم الخطوة المقبلين عليها. جعلته يزداد شكا.. يحتار.. ارتفعت حساسيته من أي أمر.. عصبيته وظنونه.. ودمامل جروح سابقة تذكره بأيام خلت. لتزكيها هي بتعاليها وتنازلاته المستمرة، التي أصبح يحس فيها بِدُلٍ يَخجل به من نفسه، وبين ترددها واستعدادها للتنازل عنه في أي مناقشة عصبية. وبين كرامته التي مرغت في التراب. كما يقول. يخطأ وتخطأ ويعتذر لها عن خطأه وخطأها. يأتيها سعيا للقياها فترفض عشرا وتقبل مرة عسرا.

صديقي هذا وهو يحكي لي حكايته انتابتني تساؤلات عن المسافة الجدلية بين كبرياء الأنا المتفردة، وما تولده في النفوس من حساسية وامتناع، وبين استمرار العطاء دونما مبالات وما ينتج من نكوص في العلاقات الإنسانية. وهل يصح فينا أن نكون كالجمال في البيداء نحمل الماء فوق ظهورنا ونحن نلهث؟ نحمل دائنا بأيدينا ونحن نراه ولا نستطيع الكف عن مسببه؟

 

أم نستجيب لقول طرفة ابن عبد حين أشجى قائلا، قتل النفوس محرم لكنه حِلُّ إذا كان الحبيب القاتل، وأي اجتهاد هذا الذي يكون فيه دمنا حلا للقاتل باسم الحب. وأي حب يعيش بعد القتل؟ أم أن الواحد منا لا يجب أن يضع قدما في علاقة ما إلا بحب مشروط، يصل فيه من وصله ويقطع من قطعه ولا يعطي إلا بقدر ما يأخذ.. تساؤلاتي هذه كانت بصوت مرتفع بالكاد يسمعه. فأجابني بتنهديه متعبة، ونفس طويل وهل يوجد شرط على أحوال القلب.

صديقي.. اقطع وصلك أنت بها، فإن هي وصلتك فهي قدرك، وإن لم تصلك فهي لم تكن لك يوما.. وقل لها وداعا مشروع حبي وشكرا
صديقي.. اقطع وصلك أنت بها، فإن هي وصلتك فهي قدرك، وإن لم تصلك فهي لم تكن لك يوما.. وقل لها وداعا مشروع حبي وشكرا
 

فكرت في قرارة نفسي هذه المرة، دون أن أطلعه على ما يخالج روحي، لأني علمت أن المتيم بالعشق كاره لكل من ينير طريقا لا تقوده إلى حبيبه ويقطع لذة عشقه. حتى في علاقة العبد بربه، العطاء والطاعة مقابل الجزاء الأخروي والدنيوي. هذا ما جبلنا عليه في تربيتنا، اعتقادنا، وكل مناحي حياتنا. والعلاقة إن لم تكن متكافئة سقطت. والكبرياء والعشق لهما فلكان مرسومان لا يبغي أحدهما على الأخر، كالأرض والقمر. فإن اختل الخيط الناظم بينهما صار الحب ذلا.

 

وأكملت وإن طغى الكبرياء على الحب؟ هنا توقفت مستغربا لربما هذا حال صديقنا، لأتذكر أغنية فيروز الشهيرة: "سألوني الناس عنك يا حبيبي.. وكيف ظلمها عاصي بأن أفرط في كبريائه بأن أراد منع الأغنية من المحطات لأنه ظن في نفسه آنذاك أن فيروز تاجرت في مرضه. وتغنت بتلك القصيدة التي وإن كتبت لأجله. لكنها لم تشفع لها أمام حجاب كبريائه.

 

ولولا نجاحها لكانت نسائم الصباح محرومة من أروع الفيروزيات، فقط في لحظة حساسية زائدة. والحال نفسه انطبق على سوء ظن قيس ابن الملوح حين تساءل خضبت الكف على فراقنا؟ لتجيبه الحبيبة ما عدا الله ذلك ما جرى ليتبين له أنها يداها تخضبت بالتراب المعجون بدموعها من أثر الفراق. فقلت له: صديقي اقطع وصلك أنت بها، فإن هي وصلتك فهي قدرك. وإن لم تصلك فهي لم تكن لك يوما. وقل لها وداعا مشروع حبي وشكرا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.