شعار قسم مدونات

أمريكا التي نعرف!

مدونات - حرق العلم الأميركي
ما إن انتشرت أنباء المجزرة الكيميائية التي ارتكبها النظام الأسدي في دوما حتى تهافت الغرب بوقاحته المعتادة لينكر ويشجب، ويدين ويستنكر، ويجلب بإعلامه الساقط أخلاقيا، وأساطيله الملطخة أيديها بدماء أطفال العراق وأفغانستان، فيرعد ويزبد، ويهدد ويتوعد النظام الأسدي وحلفائه برد صارم لا هوادة فيه، (انتقاماً للإنسانية!) و(ثأراً لدموع أطفال الغوطة!).. أهذه أمريكا التي نعرف؟ أجاءت نصرة للطفولة المنكوبة في الغوطة؟ أم انتصاراً للإنسانية التي كانت تذبح على رؤوس الأشهاد طوال سبع سنوات من الثورة السورية؟!

 
الحقيقة أن بعض المتابعين انطلت عليهم تصريحات ترمب الهائجة، وصدقوا إلى مدى بعيد أن الله سبحانه سخر لنا أمريكا بأساطيلها وأسلحتها المدمرة لتقضي على نظام الأسد وتمنح الشعب السوري حقوقه المسلوبة وحريته المنشودة! غير أن الضربة جاءت على غير ما تمنته العقول البسيطة الساذجة.. تمخض الجبل فولد فأراً: ضربة حشد لها الغرب أساطيله البحرية والجوية، وأثار لأجلها عاصفة إعلامية، استهدفت مواقع معلومة للقاصي والداني، فاستمرت ساعة قبل أن تخرج التصريحات: الضربات كانت محدودة، هدفها (الحد) من قدرات النظام الكيميائية، ونحن لا نسعى لتبديل نظام الحكم في سوريا!

 

على الأمة التي تريد التحرر من الاستبداد المفروض عليها أن لا تعلق آمالها على من احتل أرضها ونهب ثرواتها ودعم أنظمة الاستبداد وحكم العسكر المفروض عليها

كان يجب علينا أن نفهم منذ البداية أن تصريحات محمد بن سلمان عن بقاء الأسد في سدة الحكم لم تأت من فراغ، وأن بقاء نظام الأسد بالنسبة لأمريكا واللوبي الصهيوني خيار استراتيجي لا يمكن التخلي عنه ما لم يأت بديل أطوع للسياسات الأمريكية وبروتوكولات الصهاينة، وأن التصعيد الغربي يأتي للحد من توسع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط والذي يهدد مصالح أمريكا في الاستحواذ على ثروات المنطقة.
 
أمريكا التي خدع السذج بضربتها الكرتونية هي نفسها التي حاصرت أطفال العراق حتى ماتوا جوعاً، وقامت بغزو أفغانستان لتقتل وتشرد شعبها لأكثر من عشر سنوات وحتى الساعة، وهي نفسها التي أسقطت نظام صدام حسين -لا تحقيقاً لمصالح أهل السنة كما طبل وزمر كهنة البلاط الملكي في السعودية- بل لتفسح المجال أمام الشيعة الذين دخلوا بغداد على ظهر الدبابات الأمريكية ليقتلوا ويشردوا سنة العراق في غزو ديمغرافي طائفي دموي، فهل ستحرك أساطيلها لتحرر السوريين؟ أم لتنتصر لأطفال دوما وخان شيخون؟!
 
إن كانت أمريكا حريصة على حرية الشعب السوري فمن باب أولى أن توعز لمحمد بن سلمان بإطلاق سراح معتقلي الرأي في السعودية، أو أن تضع حداً لمأساة السجون المصرية التي تعج بالنساء المصريات! نحن اليوم أمام أمريكا التي نعرف: الدولة التي تنفق ميزانيتها لاحتلال الدول واستضعاف الشعوب ودعم الاستبداد والثورات المضادة وتمويل الأقليات في الشرق الأوسط لتحدث الأزمات وتطرح نفسها فيما بعد كوصي على العالم يحدد للشعوب مصيرها باسم الديمقراطية والسلام!
   undefined

 

إن سياسات أمريكا القائمة على دعم أجندة إسرائيل في المنطقة وتوطيد حكم العسكر في مصر والبقاء على بشار الأسد في السلطة ودعم بن سلمان في مواجهة الدعاة والمفكرين وأصحاب الرأي ووهب العراق وثرواته للحشد الشيعي وإثارة الأكراد للضغط على تركيا وإخضاعها، لن تحرك ساكناً كرمى لعيون أطفال دوما، وإنه من السذاجة بمكان أن نظن فيها هذا الظن البليد!

 

لقد كتبت منذ عام مدونتي الوحيدة بعنوان "فقه العبودية" وأنه يقوم على شرعنة العبودية لحكام الجور وأنظمة الاستبداد موظفاً الدين والكهنة الطائعين لتبرير العبودية كأمر واقع يجب علينا التصالح معه والرضا به. واليوم تدل مجريات الأحداث على أن أعظم مظاهر العبودية للخلق المضادة للعبودية لله سبحانه هي العبودية لأجندات خارجية يراد للأمة أن تكون وقودها، والحق أن العبودية لله تعالى تقتضي التحرر من كل العلائق الفكرية والعوائق المادية لمواجهة مشاريع التطويع الممارس على شعوب الأمة وتحقيق حريتها من قيود الاستبداد والتبعية.

 
إن على الأمة التي تريد التحرر من الاستبداد المفروض عليها أن لا تعلق آمالها على من احتل أرضها ونهب ثرواتها ودعم أنظمة الاستبداد وحكم العسكر المفروض عليها، وأن فيها من المقدرات والطاقات الكامنة ما يغنيها عن تعليق الآمال على أس الداء، وأن مواجهة المد الروسي- الإيراني لا يبرر بحال الارتماء في الحضن الصهيو-أمريكي، بل جيوب المقاومة في غزة وادلب وغيرها هم أملها في استعادة الحقوق المسلوبة وقلب الطاولة على حلف الشر من جديد، وما ذلك على الله بعزيز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.