شعار قسم مدونات

التنمية البشرية.. هكذا قالوا وما زالوا يقولون!

مدونات - تنمية بشرية محاضرة

مَحض خدعة قائمة على الإيحاء والمجهول والحلم الزائف، كُتباً كانت أو محاضرات لا شيء مختلف، كلاهما يحاول استغلال شغفك ورغبتك تجاه كل ما هو غامض ولامع، يُداعب خيالك بأن ثمة أموراً محدده وسهله جداً ستقودك إلى النجاح والثراء والعظمة لو اتبعتها، ورغم أن القائل عادةً لا يكون ثرياً ولا ناجحاً ولا عظيماً في نفسه، لكنه مطلوب منك أن تتجاهل عجزّه عن تحفيز نفسه وتصدق كلامه وتعمل به.

  

كل ما يفعله هؤلاء المدربين هو أنهم يستثمرون كسلك ويستغلون رغبتك الدائمة في الصعود سريعاً، لذلك أغلب ما يجودون به هراء فاخر يمكنه ببساطة أن يوضع بين دفتي كتاب ذو غلاف جذاب تستقبلك به المكتبات أو عنواناً ساحراً لندوة في الجامعة أو ربما اعلاناً مضيئاً عن دورة أو تلميعاً لشخص في الفضائيات تحت اسم خبير تنمية كي "يبيع لك الهوا في ازايز" تسويق الوهم حدّ الاقناع.

  

وما إن تفرغ من قراءة الكتاب أو تنتهي الدورة "و تدّوَر جوا ذاتك أهراماتك واللي علا السد" ستجد نفسك مجوفاً وخاوياً إلاّ من الوهم وندب الحظ العاثِر حدّ خيبة الأمل، لأن القوة التي لا تتحدث من داخلنا وتتخلّق في ذواتنا التي نعرفها جيداً فتضربنا علي أيدينا وتصرخ في وجوهنا فتدفعنا للإصرار ومجابهة ضعفنا بكل الطرق جرأة وتحدي لا يمكن صناعتها بآلاف القصص والمواعظ من الخارج، تلكُم هي التنمية البشرية.

 

كل شيء له بداية وهي أجمل ما فيه ونقطة ارتكاز وهي أقوي ما فيه ثم تهاوٍ نحو النهاية وهي أسوأ ما فيه، لذلك احتفظ بحقك الكامل في التجربة

كل مَن ينشُد الحكمة ويسعي وراء المعرفة ويقتفي أثَر المَعني، عليه أن يتذوق في كل شيء جماله وحقيقته وبشاعته وعلَّتُه، وحين يفتقر إلي الدافع يجدر به أن يذهب إلى المنبع والمنبع ليس دورة تنمية بشرية ولا برمجة عصبيه، المنبع هو الحياة أعني خوض غمار التجربة، أن تستميت في ممارسة الحياة والتحقيق معها، حتى إذا ضاق بك درب سلكت آخر وإذا اجتمع الناس حول كذبة، كُنت أنت الشخص الذي يصرخ في وجوههم مُعترضاً، شُق بصوتك هذا الهراء وتلك اليقينية الساذجة، كُن وجه نفسك الحقيقي بين لا قناعها الزائف المُريح، تلكُم هي التنمية البشرية.

 

صحيح أنه لا يمكنك أن تخسر شيئاً بينما تقرأ، فالقراءة رحابة تجعلك تَكثُر، والكتب مَعين وجزء من الحياة وارتقاء بها، لكننا بالحياة الحقيقية نتعلم ونطور مهارات لا يمكن أن يعلّمنا إياها شخص أو تمنحنا إياها الكُتُب لكنها تمنح الالهام والشغف تجاهها والرغبة فيها والحِكمة ازاءها، لذلك احتفظ بلياقة روحك بينما تحاول واياك أن تخدع نفسك بتبديد مالك وافساد ذائقتك بهذا الهُراء الفاخر، إن ندماً سينتج عن ذلك لا يمكنك غفرانه لنفسك.

 
شخصياً لا أثق في هذا النوع من الدورات ولا أصدق الفكرة التي تقوم عليها، فكل ما يدّعي الاحاطة بالنفس البشرية ومعرفة دواخلها وتعليبها في قوالب أو ترويضها وتهذيبها بعامل خارجي كله هراء وعبث، لا يختلف عن خطاب الوعظ والدروشة، أنا مع الذين لا يؤمنون بالمدربين ولا بالمدارس ولا بالقديسين، مع المتفردّين الذين عادةً ما يخرجون عن السياق، الذين لا يتوقفون عن معاودة البحث والتساؤل والدهشة، الذين يجرؤن على ممارسة الحياة النافرة والتحقيق معها، الذين لا يسألون لماذا؟ أو كيف؟

 

هؤلاء ليسوا بحاجة إلي مدرب تنمية بشرية أو إلي طبيب روحاني، اختاروا أن يخوضوا الحياة بأنفسهم ليتحققوا ويجدوا، لديك حياة واحده ستٌجَرِّب فيها كل شيء وليس من المعقول أن يبقي هذا الشيء مُبهِراً كما عرفته أول مرّة ، فلا شيء يمكنه أن يصمد للأبد، كل شيء له بداية وهي أجمل ما فيه ونقطة ارتكاز وهي أقوي ما فيه ثم تهاوٍ نحو النهاية وهي أسوأ ما فيه، لذلك احتفظ بحقك الكامل في التجربة هذا الجوع الذي يكبر كلما وجدت شيئاً ويتواضع كلما عرفت شيئاً ويخاف فقط ألاّ يكون هناك مزيد، أنا مع الذين يؤمنون بأن الحياة تزداد دهشتها كلما صارت التحديات أصعب وأغرب، أنا مع الحياة، الحياة مُعلِماً وفقط، تلكُم هي التنمية البشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.