شعار قسم مدونات

أن تحكي مآسي البسطاء بلسان كلب!

مدونات - كلب فقر

"ممرّ الصفصاف" هي روايته الثالثة عشرة، صدرت عن المركز الثقافي العربي سنة 2014، وبلغت اللائحة القصيرة لجائزة البوكرة العالمية للرواية العربية2015. رواية عصيّة على القارئ العاديّ، تأبى أن تنقاد له منذ الوهلة الأولى. ولا تنصاع له إلّا عندما تلمس إصراره على المضيّ بثبات عبر صفحاتها الثلاثمائة واثنتين وثمانين. "ممرّ الصفصاف" حكاية حيّ جديد، حكاية مدينة ضاقت بمستضعفيها وبسطائها؛ هي مدينة الرباط مصوَّرةً بعدسات متعددة أبرزها عدسة حيوان عانى التشرّد والإقصاء.
 

مأساة المقهورين.. يرويها كلب

تحكي الرّواية عن الجشع والاستغلال الذي يمارسه سادة السّلطة والمال في حقّ سكّان الأحياء الهامشيّة للمدن الكبرى. تبدأ الرواية برحلة الهرولة الصّباحيّة التي يقوم بها البطل من مسكنه بممر الصفصاف بِحَيّ الرّياض وصولا إلى مدخل الرّباط حيث الثكنات العسكرية إلى جانب دواوير فقيرة منها دوار أولاد دليم. هذا الدّوار ستهاجمه القوات بشراسة وتحرق خيمة اعتصام الأهالي الذين رابضوا على الطريق السّيار مطالبين بحقهم في البقاء في أرضهم التي ولدوا فيها. ثم يتسلّم الكلب "جاك" دور السّارد ليحكي لنا عن رحلته من قرية سيدي يحيى إلى إحدى حدائق الرّباط بحيّ الرّياض، حيث سيكون لقاؤه مع "بلعيد" الذي سيشتغل حارسا لِوَرْش مشروع بناء مسجد. في الجهة المقابلة لهذا الورش، تنتصب عمارة "السعادة" ذات السّتّة طوابق، جيث يسكن السّارد/البطل السيد غانم. ستتوثق علاقة البطل مع الكلب قبل أن يختفي هذا الأخير..
  

في الرّواية نجد الكلب/ السارد شاهدا على مآسي شخوص الرّواية. ومن هذه المآسي: الفقر والسكن في بيوت ضيقة عشوائيّة، ومَرَارَات البطالة وهواجس البحث عن عمل، واستغلال الخادمات، والاضطهاد من طرف أصحاب النّفوذ وسماسرة العقار، وتنكيل أجهزة الأمن بهم (سكان دوار أولاد دليم)، ومضايقة المتشدّدين في الدّين والجماعات الملتحية التي تهاجم كلّ مظاهر الحرّية والجمال.. وغيرها. واللافت للانتباه أنّ السّارد/الكلب يروي لنا مآسي هؤلاء الضّعفاء بوعي وكفاءة أعلى من باقي شخصيات الرّواية. بحيث ينقلنا بعينه المجهريّة إلى عوالم النّبّاشين والمتسوّلين. يعرّي زيف الآدميين ويفضحهم.
   
إنّ نقل دفة الحديث إلى الكلب/ جاك حينا، واختيارَه ساردا (وبطَلا) حينا آخر، وعقْدَ المقارنة بينه وبينن الآدميين في أحايين كثيرة، له دلالات عميقة؛ منها التعبير عن التّماهي بين الكلب والآدميّ المُهمّش ومدى اشتراكهما في مأساة التشرّد والنّبذ والإقصاء وفي المصير أيضا.

 

تقاطع الحكايات وتداخلها في الرّواية
طغَتْ على مُتَخَيَّل الرّواية بوليفونيّةٌ لافتة، ففي أغلب فصولها نجد تنويعا للأصوات السّرديّة، وتأرجحا بين ضمائر مختلفة في السّرد، وتنويعا للرّؤى السّردية من فصل إلى فصل، ومن مقطع إلى مقطع

تتوزّع الحكايات في رواية "ممرّ الصّفصاف" بشكل متلازم، بحيث إنّ كلّ حكاية فيها تستدعي أخرىى وتفضي إليها لتشكل بذلك نسيجا سرديا تتداخل عناصره وتتكامل. ويمكن أن نلخص حكايات الرواية في ثماني حكايات تتقاطع مع بعضها كالآتي:

 
أـ حكاية البطل (السيّد غانم/السارد) الساكن بعمارة السّعادة بممرّ الصفصاف الذي يحاول سرد ما كلّفه به المؤلّف الضمني أحمد المديني.

 

ب ـ حكاية نكبة سكان أولاد دليم، بعد هجوم القوات على المعتصِمين، وترحيل الأهالي.. (تتقاطع مع الحكاية "أ" من جانب معاينة البطل لخرائب الدّوار ومحاورته الجيلالي الناجي الوحيد من بطش قوات التّدخّل السريع).

  
ج – حكاية الكلب جاك / البطل الثاني الذي رحل من قرية سيدي يحيى، بسبب القحط، فاستقرّ بحديقة في حيّ الرياض (تتقاطع مع الحكاية "ب" في مرور هذا الكلب بخرائب دوار أولاد دليم. ومع الحكاية "أ" من حيث سيتولّى السارد العناية بالكلب بعد تسريح بلعيد من الحراسة، يصادقه، ويبحث عنه عند اختفائه في آخر الرّواية).

 

د ـ حكاية "بلعيد" ورحلته الشاقة من "دوار الحفرة" للعمل حارسا لورش مشروع بناء مسجد بحيّ الرياض (تتقاطع مع الحكاية "ب" في توقّف بلعيد في زحمة الشارع عند عبور سيارة الإسعاف التي تحمل جرحى أولاد دليم. وتتقاطع مع الحكاية ب في مصادقة بلعيد للكلب "جاك" الذي سيصير له حارسا مساعدا.

  
هـ ـ حكاية حارس عمارة السّعادة "بوجمعة" الذي يتجسس على أسرار سكان الطوابق السّتة (تتقاطع مع الحكاية "أ" في كون البطل ساكن الطابق الخامس يحيّر بوجمعة بغموضه ومواقفه المنتقدة لسكان العمارة ومحيطها).

 

وـ حكاية قطّ العمارة المسمّى "هشام"، سيصير صديقا للكلب "جاك"، صداقة ستؤدّي بالكلب إلى التّعرّف على السيد غانم وتوثّق الصلة بينهما لتغدو حميميّة بعد اختفاء القطّ جاك. (تتقاطع مع الحكايات أ ، ب ، هـ في سياقات كثيرة).

 
ز ـ حكاية الحاج "مول البركة" الذي استولى على محلّات ومقاهي ممرّ الصفصاف بمكره وتظاهره بالورع (تتقاطع مع الحكاية "أ" من حيث معاداته للسيد غانم الفاضح لورعه الكاذب، وتتقاطع مع الحكاية "ج" حيث سيحوك مؤامرة ضدّ بلعيد لتسريحه من عمل الحراسة، ويحرّض الحرّاس الجدد ضدّ جاك..).

 

 undefined

  
ح ـ حكاية الفقيه "علي بوسلهام" هو فقيه دوار الحفرة سيصير خطيبا للمسجد الجديد، سينقلب على بلعيد ويتآمر ضدّه لطرده. كما سيحاكم الكلب "جاك" ويفتي بقتله لولا تدخل الشيخ الأبيض.. (تتقاطع حكاية الفقيه مع الحكايات أ و ج و د.) فهذه الحكايات الرّئيسة إذن تتقاطع مع بعضها على امتداد فصول الرواية ، ويستدعي بعضُها بعضا، مشكّلة بذلك نسيجا محبوكا بعناية فائقة؛ نسيجا من التّداعيات التي يتولّى القارئ ربط تقاطعاتها وتفاصيلها.
 

تعدد الأصوات.. وحرّيّة الشخصيّات

طغَتْ على مُتَخَيَّل الرّواية بوليفونيّةٌ لافتة، ففي أغلب فصولها نجد تنويعا للأصوات السّرديّة، وتأرجحا بين ضمائر مختلفة في السّرد، وتنويعا للرّؤى السّردية من فصل إلى فصل، ومن مقطع إلى مقطع. حتّى أنّ صوت السّرد يتغيّر في مقاطع قصيرة، بل في أسطر متقاربة. وأبرز أصوات السرد في الرواية ثلاثة:
 
صوت السارد الأعلى: وهو الذي يطغى على مختلف فصول الرّواية، ويتماهى مع صوت البطل في مناسبات عديدة. وتفسير ذلك أن البطل/السيد غانم هو المسؤول عن سرد الرّواية. جاء في الرواية على لسان المؤلّف الضمنيّ أحمد المديني: (أنت هو السّارد، أي أنّك وحدك راوي القصّة، وناقل جميع الأفعال.. وأنّك المسؤول عن كلّ ما يترتّب عن سردك" ص322. ولأنّه هو المسؤول عن السّرد، فقد كانت له الحرّية في تنويع ضمير السرد، فبالإضافة إلى ضمير الغائب السائد، نجده يستعمل ضمير المتكلّم أحيانا، خاصة في الفصول الثلاثة الأخيرة من الرّواية.
 

هذه المساحة السّردية التي خصّصها الكاتب للكلب، تكشف عن وعيه بضرورة إعطاء هذا الصّوتت السّردي هامشا من الحرّية ليعبّر عن موقف الكلب ونظرته للعالم

صوت السارد الكلب: إنّ صوت "جاك" هو الصّوت الأكثر بروزا بعد صوت السّارد الأعلى طبعا. إذذ تولّى "جاك" سرد فصول بأكملها، كالفصل الثالث مثلا، دون أدنى تدخل لسارد آخر. هذا بالإضافة إلى أنّ هذا السّارد، الفريد من نوعه، تقاسَمَ السّرْدَ مع شخصية "بلعيد" والسارد الأعلى في فصول عدّة وهي: الرّابع، والخامس، والتاسع، والثالث عشر، والرّابع عشر. وكثيرا ما يورد السارد الأعلى مونولوجات جياشة بلسان الكلب، تُكتب بخطّ مضغوط خاصّة في الفصلين السّابع والرّابع عشر. من ذلك: " أنا هنا أحتجّ، أدافع عن حقّي، عن بيتي، هذه الحفرة هي مسكني.." ص161.
 
صوت شخصيّة "بلعيد": شارك "بلعيد" السّاردَين الآخرَيْن في رواية مقاطع كثيرة في الفصول التي سبق وذكرتُها. ويحتلّ صوته الرّتبة الثالثة بعد السارد العليم/البطل والسارد الكلب/جاك. ويتوزع سردُه بين ضميري المتكلّم والغائب. ويسود عنده ضمير المتكلّم في مونولوجات جيّاشة تكشف تقلّبات نفسيته المقهورة وهو على شفير البطالة غير مطمئنّ على مستقبله.
 
أما بقيّة الأصوات فترد بين ثنايا مسرودات هؤلاء الثلاثة، وهي بمثابة مقاطع حواريّة، رغم أن الكاتبب قليلا ما يؤشر لها سواء بعبارة تفيد مقول القول، أو بالعرائض كما هو معروف. وقد عمد الكاتب إلى تعدد الأصوات ليتيح للشخصيات حريّة التعبير عن فلسفتها ووعيها. إنّ تقنيّة تعدد الأصوات، كما حدّدها باختين، هي تعدّد مراكز الوعي. بحيث يكتسب الأبطال حرّية إبداء مواقفهم، فيختلط صوت المؤلّف مع أصوات شخصياته، وتمتزج رؤيته للعالم برؤاهم.
 
هذه المساحة السّردية التي خصّصها الكاتب للكلب، تكشف عن وعيه بضرورة إعطاء هذا الصّوتت السّردي هامشا من الحرّية ليعبّر عن موقف الكلب ونظرته للعالم. حتى ولو كانت هذه "الشخصيّة" حيوانا، فبإعطائها صوتا روائيّا فكأنّ الكاتب يؤنسنها؛ لأننا عادة ما نقصي هذا الحيوان ونلغي مشاعره، ولا نكاد ننظر إليه إلّا بما نحسّ ونشعر. وفوق هذا، فالكاتب جعل منه نموذجا إنسانيا راقيا ينتقد به بعض البشر الحقيقيين الذين تكالبوا وصار كلامهم مجرّد نباح!

 
فهذا الجوّ التخيلي الذي خلقه أحمد المديني في ممرّ الصفصاف. هو الجوّ نفسه الذي يعيش على مناخه المغاربة في المدن الكبرى، هو جوّ الرّباط تحديدا؛ جوّ مثقّل بمآسي المقهورين وجشع أصحاب النّفوذ واستغلالهم للبسطاء. فالرّواية في مجموعها لا تمثل حيّا أو زقاقا أو ممرّا، إنّها تمثل مدينة الرّباط. ومادامت هي العاصمة، فهي صورة مختزلة لواقع المغرب ككل؛ واقع مليء بالمفارقات والتناقضات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.