أضاءت نار المسيرة بل وثوران بركانها الشعبي السلمي الثّابت على الحقوق المكافح لأجل نيلها مشارق العالم ومغاربه، فتحت بحداثة فكرتها وحجم الالتفاف الجماهيري حولها عيون القاصي والدّاني إلى هذا الشّعب المُهمّش المُحاصر المُحارب في قوته وقوّته، أي في رزقه ومعيشته ورواتب أبنائه، وفي تمسّكه العضوض بحقّ المقاومة والثبات على كافّة أساليبها التي ليس لها رأس إلا الحِراب.
لقد دُفِعت غزة بلا شك نحو تغيير معادلة الاشتباك مع الاحتلال الرّامي إلى تمرير مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، فلم يكن الاشتباك المسلّح إلّا مرام الاحتلال لينجح في كسر الشوكة التي كادت أن تتهالك في غزة بفعل طول الحصار وتشديد الخناق وتحييد المؤازرين أو شيطنتهم، ناهيك على أنّ حبل المصالحة الذي كان يشكّل مهربًا من حبل المشنقة المُلتفّ على رقبة القضية قد تبيّن أنه شريك في اللعبة الرامية لتعرية غزة من درعها الذي يحميها وهو سلاح المقاومة.
المراقبون بدأوا يلتمسون انهيارًا حقيقيّا في فُرص تمرير "صفقات الحلّ النّهائي" الرامية إلى تصفية قضية فلسطين وتوطين اللاجئين، فهاهم اللاجئون يُعبّرون عن تمسّكهم بحقّ العودة إلى الأراضي والمدن |
انتفضت غزة انتفاضة الحياة ونفضت عن نفسها أكوام من الرّكام الذي أثقل كاهلها وأرادت إعادة كل إنجازات القوى المعادية بحرف بوصلة الصّراع من اجل الوطن إلى صراع سياسي داخلي تتحكّم في أبعاده لقمة العيش وحبّة الدواء وبوّابة المعبر، إعادتها إلى مربّع الصفر، إلى مربع الأرض المسلوبة، والوطن الضّائع، وحقّ العودة، وحرّية تقرير المصير.
ويظهر هنا السّؤال المهم حول ما إذا نجحت غزة بمسيرات العودة في تحقيق شيء من أهدافها أو على الأقل ما إذا كانت بالفعل تسير في الاتجاه الصحيح؟ ويمكن لكل متابع أن يُلاحظ بوضوح حجم الإنجازات التي تحققت منذ انطلاق المسيرات ما يدفع بالمعتصمين إلى المضيّ قُدمًا في حراكهم هذا مُقدّرين أهميّة التضحيات المبذولة، ومُقدّرين أهمية عدم السّماح بفشل مساعيهم كأفضل وسيلة لمباركة هذه التضحيات المُقدّمة والدّماء السائلة والجروح الغائرة.
إنّ أول إنجاز حققته مسيرة العودة الكبرى قد ظهر جليّا في يومها الأول، فيوم الأرض كان يوم التفاف الجماهير حول الأرض وغرس جذور الحقّ فيها عميقًا في أعماقها وكسر كلّ مِعول يُحاول اقتلاع هذه الجذور الفلسطينية من أرض فلسطين، جمعيّة هذا التّمسك بالحقّ ومفاضلته الجماهيرية على حقوق العيش الكريم هو الإنجاز الأهم الذي يستحق تسليط الضوء عليه، فعشرات السنوات من إلهاء الشّارع الفلسطيني تارة بالانفتاح وتارة بتضييق الخناق، تارة بالسّلطة وتارة بنزع السلطات ونهب الخيرات، تارة بالحصار وتارة بالحرب، كلها فشلت في صرف أنظار الفلسطينيين بمختلف أجيالهم عن جوهر قضيتهم.
ثم نلتمس إنجازًا جديدًا لمسيرة العودة، وهو الوحدة الحقيقية للشعب الفلسطيني، فحشد الجماهير على خطّ المواجهة المباشرة للعدوّ الصريح ساهم في إزاحة كل عقبات الاختلاف الفلسطيني الداخلي وصرف النظر عن كل ما من شأنه إيجاد فُرقة أو نزاع فلسطيني فلسطيني. الوحدة بين مكونات المجتمع السِّنّية وارتباط الآباء والأجداد والأبناء والأحفاد بمشروع واحد وقضية واحدة، والوحدة السّياسيّة بين أطياف وفصائل وتيارات الشعب المتنوعة فيما بينهم بالإضافة للوحدة فيما بين المُؤطّرين سياسيّا والمستقلّين، هي إنجاز نادر تحقّق ببركات المسيرة وسموّ غاياتها.
سياسيّا فسياسيّا فإن المراقبون بدأوا يلتمسون انهيارًا حقيقيّا في فُرص تمرير "صفقات الحلّ النّهائي" الرامية إلى تصفية قضية فلسطين وتوطين اللاجئين، فهاهم اللاجئون يُعبّرون عن تمسّكهم بحقّ العودة إلى الأراضي والمدن والبلدات والقرى التي هُجّروا منها قسرًا، ضاربين بعرض الحائط كل أشكال المساومة على هذا الحقّ من أفكار الوطن البديل إلى التوطين في دُول المهجر أو غيرها من أشكال التّصفية السياسية لقضيّة فلسطين.
إن هذه المسيرة تُحقق في كلّ يوم وفي كلّ أسبوع مزيدا من الأهداف والغايات، وتحصد ساعةً بعد ساعة مزيدا من التّأييد العالمي للحراك، وتُسقط مع كلّ رصاصة تُصيبُ شهيدا أو تُعيق جريحا مزيدا من أجزاء قناع الديموقراطيّة والإنسانيّة المُزيّف التي تُخبّئ ورائه دولة الاحتلال وجهها البشع، هذه المسيرة المُتنامية تعتمد على طول النّفَس وعلى ثبات المُعتصمين وعلى مراكمة الأهداف بالتّتابع، وليتذكّر الفلسطينيين أنّ النّار التي قصدوا منها القبس، لابدّ أن يجدوا عندها من يقول لهم: لا تخافوا، إنّكم من الآمنين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.