شعار قسم مدونات

من السؤال السائل إلى السؤال المسؤول!.. قراءة نقدية

مدونات - رجل يقرأ
الفلسفة كما قال نيتشه كالطفل الصغير لا تكفّ عن طرح الأسئلة! وغايتنا اليوم هو ترشيد السؤال الفلسفي المتطفّل السّاذج، والانتقال به من السؤال السائل إلى السؤال المسؤول؛ حينما يكون السّؤال رجلا!

 
لي مقالٌ كنت قد تحدثت فيه عن مزالق السّؤال الفلسفي الذي يفتقد بحد ذاته إلى السؤال الغائي من السؤال.. حيثُ يكونُ السّؤالُ سائلا، لكن عند قراءتي لكتاب "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" لأستاذنا طه عبد الرحمن -حفظه الله- أدركتُ كنهَ وصدق المذهب الذي كنتُ قد ذهبتُ إليه من قبل.. فالسؤال عندنا ليس فقط من أجل السؤال "للتّرف العقلي"، أو للوصول إلى حقائق متصوّرة في ذهن السائل "للتبرير"، وإنما هو "سؤال مسؤول" أي الطور الثالث من السؤال الفلسفي كما قرّر طه في مقدمة الكتاب.
 

السلوك النقدي حسب فوكو هو سمة الغرب الحديث فقط، وإذا أردت أن تكون مستنيراً فيعني أن تتبنى السلوك النقدي كما قال طلال أسد في كتابه "هل النقد علماني"

لذا، فالسؤال الأول: هو السؤال الفلسفي اليوناني القديم، وقد كان عبارة عن فحص؛ وهو أن يختبر السائل دعوى مُحاوره بأن يُلقي عليه أسئلة تضطره إلى أجوبة متناقضة تؤول في الغالب إلى إبطال دعواه وبيان تهافتها، ومثّل له بالممارسة السّقراطية للسؤال في ذلك العهد. بينما نجد السّؤال الثاني: يتمثّل في السؤال الفلسفي الأوربي الحديث: وهو عبارة عن نقد: بأن لا يُسلِّم الناظر بأية قضية حتى يقلّبها على وجوهها المختلفة، ويتحقق من تمام صدقها، متوسلا في ذلك بمعايير العقل وحدها، ومثل له بالنّقد الكانطي.

 
أما سؤالنا فطه يقول: "ليس سؤالا فاحصاً لموضوعه، متوسلا بوضعه كسؤال كما نجد عند سقراط، ولا سؤالاً ناقداً لموضوعه، مسلِّما بوضعه كسؤال كما نجد عند كانط، وإنما سؤال يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه، أو -بلغة الفحص السقراطي- سؤال يفحص وضعه كما يفحص موضوعه، أو -بلغة النقد الكانطي- سؤال ينتقد وضعه كما ينتقد موضوعه… الأصل في الفلسفة ليس -كما اشتهر- السؤالية وإنما المسؤولية" ص:15-14.
 
والمسؤول عنده يتأرجح بين معنيين:
أحدهما: معنى المفعول من سأل، أي المتلقي للسؤال في مقابل السائل.
وثانيهما: معنى المتحمل لتبعية فعل ما، بما في ذلك فعل السؤال.

 
إنّ ما يعطي للعلم قيمته المثلى اليوم؛ هو السؤال المسؤول القادر على تجشّم العناء الفكري والبحث الإبستيمي العميق.. وذلك كله من أجل إحداث باراديغم علمي إسلامي لبناء الحضارة المنشودة. وفي الآن ذاته أن نجعل من النقد الكانطي نقداً مسؤولا؛ يعي جيداً مخرجات التّفكير الفلسفي، لا نقداً عَلْمانياً مُتسيّبا… لأنه كما يقول ادوارد سعيد في مقاله "النقد العلماني": إن النقد… متقوقع دائما، فهو متشكك، وعلماني، ومنفتح، انفتاحا عاكساً لإخفاقاته الذاتية.
      

undefined

  
ولعلّ من أبرز سمات النّقد الكانطي أنّه يرجّح العمل العقلي الذي كان محرّكا لفكرة التّنوير، ليأتي ميشيل فوكو فيتساءل: ما النقد؟ الذي كان عنوانا لمقاله سنة 1996، ويقول: يبدو أن بين مشروع كانط الباذخ، والأنشطة المهنية الجدلية الصغيرة المسماة "بالنقد"، التي وُجدت في الغرب الحديث (من القرن الخامس عشر إلى القرن السادس عشر تقريباً) طريقة معينة للتفكير والكلام وكذلك العمل، وعلاقة معينة بما هو موجود، وبما يعرفه المرء، وما يفعله، وكذلك بالنسبة لعلاقته بالمجتمع، وبالثقافة، وبالآخرين، وكل هذا يمكن تسميته "بالسلوك النقدي" ص 382.
   
فالسلوك النقدي حسب فوكو هو سمة الغرب الحديث فقط، وإذا أردت أن تكون مستنيراً فيعني أن تتبنى السلوك النقدي كما قال طلال أسد في كتابه "هل النقد علماني" ص67، لكننا نجد طه يعتبر النقد المسؤول "هو الذي يركن إلى الاعتقاد في نفسه، فضلا عن عدم الركون إلى الاعتقاد في وسيلته التي هي العقل، وإنما يمارس النقد على نفسه كما يمارسه على منقوده وعلى وسيلته العقلية، فهو إذن ليس بنقد معقود يُخشى انعطافه بالضرر كما هو شأن السؤال بلا مسؤولية، وإنما هو نقد منقود يُؤمن جانبه، بل يُرجى نفعه" ص16.
   
لنقول: إنّ الدراسةَ الموضوعيةَ اليوم؛ كفيلةٌ بإعادة الاعتبار للبحث العلمي الذي ظلّ في الغرب رهينا للعقل وللتسيّب النقدي.. فالفيلسوف الجديد على وجه العموم -كما يقول مُجدِّدُنا حفظه الله-: هو السائل والمسؤول، وأن صفة المسؤول فيه تتقدم صفةَ السّائل، ظهر أنّ الفيلسوف العربي الجديد، على وجه الخصوص، ليس هذا الذي يخوض في أي سؤال اتفق، ولا ذاك الذي يخوض في كل سؤال خاض فيه غيره تقليداً له، وإنما هو الذي لا يسأل إلا السؤال الذي يلزمه وضعه ويلزمه الجواب عنه" ص16.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.