شعار قسم مدونات

بعدَ سبعٍ عجاف.. سقاهُ اللهُ "فرح"

blogs - baby
في الوقتِ الذي كانَ يكابدُ فيه نيرانَ الاشتياقْ لإنجابِ طفلٍ كانت هي تكابدُ نيرانَ الحربِ والفقدانْ، هي الأقدارُ ترسِمُنا لا نرسِمها، كيف لا وإن لم يكنْ حالُ أحمد هكذا لما وجدت ملاذها الوحيد والحضنَ الذي مسحَ عن جبينِها الصغير عثراتِ الحياة التي كانت أكبرَ من ملامِحها وأكبرَ من عدد أيامِ عمرِها.
سنواتٌ قضاها أحمد متأخراً عن الإنجابِ كان يزدادُ فيها شوقاً يوماً بعد يوم لضحكةِ طفلٍ تصدحُ في أرجاءِ منزلِهِ الساكنْ الذي عَمهُ الهدوء سِوا من ثرثرتِه المعتادة ِ مع زوجتهِ بوقارٍ لا يشبهُ ضجيجَ الأطفالِ ولا صخبِهمُ الجميل الذي يمنحونهُ للحياة.

لم ييأس هو في يومٍ أن يكونَ له طفلٌ من صلبهِ فحاول كثيراً إنجابَ طفلِ أنابيب، ربما حينَها كانَ يسمي عدمَ نجاحِ العمليةِ فشلاً لكن للقدرِ تقسيمةٌ أخرى لعلها أشدُ روعةً مما قسَّمهُ هو. أناملُها الصغيرةُ لم تعد تلامسُ أيدي والديْها هكذا الحروبُ دائماً لا تأخذُ منا إلا شِغافَ القلب، بقيت وحيدةً وهي في عمرِ الأربعةِ شهور لا أبَ ولا أمٍ ولا أخ فالموتُ كان أقربَ لها من حبلِ الوريد، إنتزعت حربَ سوريا كلَ أهلِ بيتِها لتتركَها وحيدةً تواجهُ مصيرَها المجهول، لم يكن أمام أقربائِها من حلٍ سوا أخذِها عندَهم إلى حينِ تدبيرِ أمورِها ولأن الحربَ لا تُبقي ولا تَذر ما كانَ بوسعِ أقربائِها إلا النزوحَ فراراً بأرواحِهم فكانتْ غزةُ ملاذَهم.

"أسميتُها فرح" قالها والفرحةُ تملأُ مُحيَّاه، لم يكن يعلمُ أحمد أنَ سوريا شقيقةُ الوجع ستكونُ شقيقةُ الفرح، "عندما علمتُ بقصِتها وأنها فقدت جميعَ أهلِها لم أتردد ثانيةً عن محاولةِ احتضانِها"، فعلاً قدمَ أحمد أوراقهُ لاحتضانِها وبعد التدقيقِ من الجهاتِ المعنيةِ للتأكدِ من استحقاقهِ لمثلِ هذه الخطوةِ جاءتِ الموافقة، وكانَ له الخيارُ في اسمٍ جديدٍ لها، فجعلَ من اسمِها نصيب، كيفَ لا وهي من أدخلتِ الفرحَ إلى قلبهِ هو وزوجتهُ بعد أن أضنتهُم نيرانُ الحرمان.

من قلبِ أوجاعِها التي لم تُدرِكها بعد كانت فرح الفرحةُ التي غمرت بيت أحمد والدواءُ العليل لوجعِ أيامٍ طوال لن يشعرْ بذاكَ الألمِ إلا من تجرعَ كأسَ الحرمان، "هي البهجةُ والفرحةُ والسعادة، هي الأملُ والحياةُ وكلَّ شيءٍ جميل هي ابنةُ روحي وجارةُ قلبي"، كان وصفُ أحمد حبَه لفرح أكثر من وصفِ حبِ المجنونِ لليلى، الآنَ أدركَ جمالَ الأقدارِ وهي تهبُه الحياةَ من وسطِ ركامِ الموتِ الذي خرجتْ منهُ فرح، أصبح عمرُها سنةً وشهرين إعتادت أن تنادي أحمد بابا وزوجتَهُ ماما فهم أولُ من أدركتهم في حياتِها وأول من وعيت عليهِ، أصبحت تمشي وأول ما خطت قدماها كانت تذهبُ لأمِها الجديدة وتؤشر بسبابتِها الرقيقةَ على بطنِ زوجةِ أحمد وتقولُ "بوبو" وكررت هذه الحركةَ على عدةِ مرات "قلتُ لزوجتي خذو فالكم من صغاركِم شو رأيك نعيد محاولة إنجاب طفل أنابيب" خوفها من الفشلِ المتكرر جعلَ زوجتَه تتردد لكنَّ كلماتِ فرح البريئة كانت شعاعَ النورِ الذي أنار بصيرتهُ وحملهُ على العزمِ والمضيِ قُدماً في "الزراعة".

الآن أصبحَ لفرح أخت، جاءَتها من تؤنِسُ وحدتِها وتملأُ منزلَ أحمد بروحٍ جديدة، ربما ما دارَ في أذهانِنا مُؤَكَداً أن الطفلةَ الجديدةَ هي من ستحظى بالحبِ وتنزعُ التاجَ عن رأسِ فرح؛ فالجديدةُ من صلبِ أحمد ليست كحالِ فرح، ولكن كانَ ردُ أحمد أقوى من تلكَ الافتراضات قالها بعيونٍ صادقةٍ متأكدةً من مشاعِرها "لن يحتلَ أحدٌ مكانَ فرح فهيَ فرحتي الأولى وأولَ من قالَ لي بابا، أنا وزوجتي متعلقينَ بها جداً ربما لن يأتيَ أحدٌ وإن كانَ من صلبي ويأخذَ هذه المكانةَ التي حظيت بها فرح".

في ختامِ حديثنِا معهُ أحمد يشجعُ كل من حُرِمَ من الإنجابِ ألا يتردد لحظةً ويكفلُ طفل، أضافَ متعجباً "لماذا يبقى الإنسانُ يتجرعُ آلامِ الحرمان وهو باستطاعتهِ أن يَرسُمَ البسمةَ على شفتي طفلٍ ويُدخلَ الحياةَ إلى منزلِهِ أيضاً" ربما الإنسانيةُ كانتِ الدافعَ الأقوى لأحمد فلم يختارَها شقراءُ ولا صبي يُعينهُ في كِبَرِه اختارهَا فرح ذاتَ البشرةِ السمراء والشعرِ المموج علّهُ يمسحُ أحزانَها وتمسح أحزانَهُ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.