شعار قسم مدونات

بطل على عرش الضحايا

مدونات - بطل شطرنج

هاج الموج واضطرب.. وما عاد يتبين من ملامح الشاب سوى يد تنتصب قائمة وسط المياه وصراخ.. صراخه البعيد الممزوج بالحشرجة.. وصراخ الأم المذعورة تولول على الشاطئ مستنجدة.. والأب.. يقف أمام موت ابنه وهلع زوجته عاجزا.. لا يعرف السباحة.. حاول التواصل مع فريق الإنقاذ دون جدوى.. وكل من كان في المكان.. يقف موقف المتفرج لا يجرؤ على الاقتراب.. فمهارتهم في السباحة ليست بالكبيرة.. والموج قد أبعد الشاب إلى نقطة ليست بالقريبة.. يبدون أسفهم وتعاطفهم ومواساتهم دون حراك..

  
كنت أنا وصديقي أسامة.. في ذلك المكان نقضي الإجازة.. لم أكن أهوى السباحة في الحقيقة.. ولم أكن أتقنها.. وكان هدف حضوري هو الاستمتاع بطبيعة البحر وزرقته واتساعه لا أكثر.. أما صديقي أسامة.. فكان سباحا ماهرا.. حصل على العديد من الجوائز والميداليات.. حتى أنه أنهى مؤخرا دورة مكثفة على يد خبير في الإنقاذ وحصل في نهايتها على شهادة معتمدة تؤهله للتعامل مع أي حالة قد تواجهه.. حثثته على المساعدة.. فتقدم في مظهر الضرغام.. وأنا.. وقفت أراقبه بدهشة!! صديقي أسامة.. كان في تلك اللحظة الشخص الوحيد في ذلك المكان الذي يمتلك ما يؤهله لإنقاذ الغريق تماما!!

 

كنت أتصور أنه سيشق البحر.. سينقذ الشاب في غضون دقيقة.. اثنتين.. خمسة على الأكثر.. لكنه فعل ما لم أتوقعه ولم أفهمه بتاتا.. توجه أسامة إلى بائع العصير الذي ترك عربته وانضم إلى المتفرجين.. قام بشراء وتوزيع العصير المجاني على من كان على الشاطئ "تفضلوا.. هذا العصير سيساعدكم على أن تبقوا هادئين، لا تتوتروا.. كل شيء سيكون أفضل".

 

هاج الحضور على الرجل المعترض.. تم طرده.. واتهم بالخيانة والجهل.. لاحقه الحضور غاضبين.. مرددين "هو لم يبق مثلك مكتوف اليدين.. هو لم يبق مثلك مكتوف اليدين".. أدركت حينها أن الجمهور.. أصبح أيضا من الضحايا..

توجه بعدها إلى والد ووالدة الشاب يذرف الدموع.. حاول أن يخفف عنهما بكلمات منمقة اختارها بعناية.. " لا تقلقوا أبدا.. أنا هنا لأنقذ ابنكما.. سيكون بخير إن شاء الله" لم تتوقف دهشتي عند هذا الحد.. بل تضاعفت أكثر حين أرسل أحد الموجودين إلى أحد محلات الملابس القريبة من الشاطئ قائلا له: "أحضر بعض الملابس الجديدة لنلبسها للشاب حين يخرج بالسلامة على نفقتي الشخصية" وأرسل غيره ليحضر بعض الطعام والشراب.. لم أجد لهذه الخطوة تفسيرا.. هل يريده مثلا أن يموت شبعانا بدل أن يموت بمعدة فارغة!!

 
"أحضروا بعض البطانيات.. وبعض الأدوية.. بالتأكيد سيشعر بالبرد والقشعريرة والسقم حين يخرج".. مرت عشر دقائق.. ربع ساعة.. عشرون دقيقة.. أسامة يقدم حلولا غريبة.. لكنه لم يقدم أي حل يخص الشاب الغريق.. لم يشق البحر.. لم يستخدم مهارته في الإنقاذ.. لا أدري هل كان ذلك عن قصد أو دون قصد.. غرق الشاب..

في مراسم تشييعه.. وضعت الجثة في قاع القبر.. وارتفع التصفيق والهتاف لأسامة إلى القمة.. تم تنصيبه بطلا.. لم أتحدث بشيء رغم استغرابي.. ولم أبُح بالسر الذي أعرف.. ما حدث يصب بشكل أو بآخر في مصلحتي.. أنا اليوم صديق البطل.. ولا أنكر أن أسامة قد قدم لي في حياتي الكثير من الخدمات.. وستتضاعف تلك الخدمات حين يكون بطلا.. لن أفضح سره أبدا.. قد يكون لما فعل تفسيرٌ وحكمةٌ وسياسةٌ أجهلها.. سأعلن منذ اليوم الولاء له..

 
فجأة.. من بين الحضور.. ارتفع صوت أحد الرجال مستهجنا يشير إلى أسامة وقد تذكر.. "أنا أعرفك!! لقد رأيتك مرارا على التلفاز تحصد الجوائز والميداليات في السباحة والإنقاذ.. لِمَ لَمْ تنقذه بدل كل ما فعلت.. لم قدمت كل تلك المساعدات السطحية المتعاطفة الصفراء؟! ولم تقدم الحل الجذري الفوري طالما أنه كان طوال الوقت بين يديك وفي استطاعتك؟!"

 
هاج الحضور على الرجل المعترض.. تم طرده.. واتهم بالخيانة والجهل.. لاحقه الحضور غاضبين.. مرددين "هو لم يبق مثلك مكتوف اليدين.. هو لم يبق مثلك مكتوف اليدين".. أدركت حينها أن الجمهور.. أصبح أيضا من الضحايا.. تماما كالشاب الغريق.. وصديقي أسامة.. صار بطلا.. على عرش الضحايا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.