شعار قسم مدونات

هل نحن مخيّرون أم مسيّرون؟

مدونات - رجل بالسيارة يفكر

نستيقظ من النوم صباحا ونعتقد أننا أصبحنا متحكمين بتصرفاتنا وأفعالنا على خلاف الأحلام التي كانت كلمة الفصل فيها لعقلنا الباطن وتخيلاته اللاإرادية. يبدأ نهارنا بخيارات متعددة لا متناهية، من وجبة الفطور الى تناسق اللباس وشكله الى طريقة تصفيف الشعر وهلمّ جر. لا يمضي اليوم إلا وقد اعتقدنا أننا كنا موفقين باختياراتنا أو العكس.
 
في خضم هذا الفرح باعتقادنا أننا مسيطرون على كافة هذه الخيارات ينمو الشعور بالخوف عند التدقيق بتفاصيل هذه الخيارات، فصحيح أننا اخترنا الفطور على مزاجنا إلا أننا لا نعلم لماذا نفضّل صنفاً من الطعام دون الأصناف الاخرى. بل إن حدث ومرضنا بعد تناول صنف من الطعام لا نستطيع تبرير لماذا نبقى نكره هذا الصنف لفترة طويلة. أما لباسنا فقد قمنا باختياره بعناية ولكننا لا نعلم لماذا نشعر بالارتياح للون من الألوان دون الآخر.

 

هذا التحكم اللاإرادي بخياراتنا لا يتوقف هنا بل يمتد على محيطنا الخارجي والأشخاص الذين نقابلهم، فعند مقابلة شخص ما بعد فترة انقطاع طويلة نحاول تذكر اسم هذا الشخص ولكن دون جدوى فقد تم محو هذه المعلومات من ذاكرتنا السريعة لنبقى نحاول لساعات أو حتى أيام لنجد بعدها أن الاسم قد عاد لذاكرتنا دون سبب.

 

لا يمكن أن يكون الشخص مخيّراً إلا إذا استطاع أن يخرج من دائرة المسلمات لديه ويعيد التفكير بها بعد جمع المعطيات اللازمة لذلك. أما من يعيش بنفس التفكير الذي ولد عليه لا يستطيع إلا أن يكون من المسيّرين

يبقى الأمل أننا نحرك جسدنا وأطرافنا بإرادتنا، لكن خبراء لغة الجسد يقرون بصعوبة تحكمنا حتى بأبسط الأفعال، فلا نرى أنفسنا إلا نشتري أشياء عديمة الفائدة لنرمي بها بعد فترة، ولا نستطيع فتح عيوننا عندما نعطس. أما عندما نرى طفلاً يسقط فنهرع للإمساك به دون تفكير ولا نتحكم بجسدنا إلا بعد أن نكون قد أمسكنا به وانقذناه من السقوط، عندها فقط يبدأ التفكير الواعي بالعمل ونكون قادرين على تحليل المعلومات ولكن بعد فوات الأوان، لنستغرب كيف قمنا بهذا العمل.

 

أما عندما نقود سيارتنا بمكان جديد فنستقبل الكثير من المعلومات التي نشعر بالإنهاك منها بعد مغادرة المكان، يبدأ العقل بتجاهل المعلومات الغير نافعة في الزيارات اللاحقة وتثبيت معلومات أخرى مهمة كسرعة الطريق وأماكن التقاطعات لتسهيل عملية القيادة.

 

لا يستطيع أي انسان التحكم بجميع هذه اللاإراديات، ولكن البعض يستطيع التفكير بها ليصبح قادراً على تعديل أمور قد توجه منحى حياته حتى الممات. من هذه اللاإراديات نجد أن جزءاً ليس بالقليل قد تكوّن لدينا نتيجة العيش في بيئة معينة. فليس مستغرباً فض خلاف في العالم العربي لا إرادياً بالضرب أو العنف ولكن الأمر يصبح مستهجناً بعض الشيء في العالم الغربي. أما العيش بمدينة ملحدة منذ الصغر يكوّن شعور لدى الشخص بعدم وجود إله لهذا الكون.

  undefined

 

تكوّن هذه اللاإراديات ليس غريباً على الانسان، فالجنس البشري لا يشعر بالاستقرار إن لم يكن ينتمي للبيئة المحيطة به. تنمو هذه اللاإراديات لتصبح في بعض الأحيان مسلمات وقناعات يدافع عنها المرء حتى دون التفكير بها ولو لمرة واحدة الى أن يصطدم بحادثة مفجعة أو ينتقل لبيئة أخرى تسهل عليه عملية التفكير.

 
ختاماً لا يمكن أن يكون الشخص مخيّراً إلا إذا استطاع أن يخرج من دائرة المسلمات لديه ويعيد التفكير بها بعد جمع المعطيات اللازمة لذلك. أما من يعيش بنفس التفكير الذي ولد عليه ضمن نفس البيئة المحيطة به لا يستطيع إلا أن يكون من المسيّرين الذي يعتقدون أنهم أحرار بخياراتهم ولكنهم لا يملكون للأسف سوى خيارات من حولهم أو من سبقهم بهذه الحياة.

 

"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّـهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" النساء: ١٢٥. "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" البقرة: ٢٦٠

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.