شعار قسم مدونات

متعب الكيماوي!

مدونات - متعب
بجسده المنهك ووجهه الباسم استقل معي الشّاب السوري متعب، البالغ من العمر 26 عام ابن ريف السلمية، سيارة أجرة متّجها إلى إحدى مدن تركيا عائداً من إجازته التي لم تتجاوز 24 ساعة إلى المنشأة التي يعمل بها والتي تعود ملكيتها إلى شخص سوري. طوال الطّريق كنت أحاول تبادل الأحاديث معه تارة، أو الدّعابة تارة أخرى، إلا أنّ متعب الذي نام أكثر من نصف مسافة الطّريق كان يرد في بعض الأحيان بلسان الموجز المختصر للحديث، وأكثر الأحيان يبقى صامتا دون أن يلتفت نحوي إلا أنّ عيناه كانتا مثقلتين بالهموم والقصص ولدى وصولنا إلى المدينة التي يعمل بها متعب بادره سائق سيارة الأجرة عن مكان عمله فأخبرنا بأنّه يعمل بأطراف المدينة في المنطقة الصناعية فطلب منه السّائق بلطف أن يدعونا إلى شرب الشّاي لدى وصولنا إلى مكان عمله تبسم متعب مرحباً بالطلب، إلا أنّ المنشأة كانت ذات بناء قديم مؤلف من أربعة طوابق مليئة بتلال من ألبسة (الجينز) الرجال والأطفال وجميع العاملين فيها من السوريين صعدنا إلى الطابق الثالث وكانت الروائح الكيميائية تتسلل إلى صدورنا كلما تقدمنا خطوة داخل المكان استقبلنا متعب في غرفته التي كانت تضم نحو ستة أو سبعة أشخاص كان الجميع نياما رفضنا الدخول في بادئ الأمر حتى لا نزعجهم إلا أنّ إصرار متعب على الدخول دفعنا للرضوخ إلى طلبه.
 
بدأ متعب بتحضير الشّاي في نفس المكان الذي ينام فيه مع زملائه في الحقيقة كانت عيناي تتجولان داخل الغرفة البسيطة التي يعيش فيها متعب فلم أجد شيئا يتم استخدامه أكثر من فراش النّوم سألني متعب أثناء تحضير الشاي عن طبيعة عملي فأجبته بأنني أعمل في مهنة الصّحافة فهز برأسه ولم يسأل بعدها عن شيء فبادرته بالسؤال بالاطمئنان عن أهله ومكان تواجدهم فأخبرني أنّهم في المناطق المحررة شمال سوريا وأنّه جاء للعمل برفقة أخيه الذي يصغره بأربع سنوات للعمل في نفس المنشأة والتي يتجاوز فيها عدد ساعات العمل اثنتي عشرة ساعة في مهنة (كحتة الجينز) أي إضافة الرّسوم وتوشيح الملابس بالإعتماد على الأصبغة والأحبار والمواد الكيميائية التي عانى منها الكثير في الأسبوع الأوّل من العمل إلا أنّ هذه المواد تسللت إلى رئتيه وأصبحت جزءا من جسده ولم يعد يشعر بها الآن وأنّه أيضا لم ينم الليل منذ ثلاثة أشهر بسب توقيت عمله الذي يمتد من الثّامنة مساءا حتّى الثّامنة صباحاً براتب لا يتجاوز مئتين وخمسين دولارا والتي يحاول الإقتصاد والتوفير منها قدر المستطاع لمساعدة عائلته التي هُجرت إلى محافظة أدلب.
 
أثناء سماعي لحديث متعب لم يترك في رأسي أكثر من سماعي عن استغلال صاحب المنشأ للعمال من حيث عدد ساعات العمل وعدم توفير أدنى وسائل الأمن أو الصحة والوقاية من الروائح الكيميائية التي يغصّ بها المكان حتّى وصلت أعلى غرف نوم العمّال وهنا بدأت تختلط لدي الأفكار والمعلومات حول ما كنت أسمع عن الأشخاص الذين يمتهنون هذا النّشاط في المعامل التي تعود ملكيتها إلى المواطنين الأتراك وبأنّ عدد ساعات العمل تصل إلى تسع ساعات وبراتب يكاد يكون أفضل مما يتقاضاه متعب في هذه المنشأة السورية.
 
انتفض متعب فجأة لملء كوب الشاي لي ولسائق الأجرة وأحضر معه كيساً صغيراً فيه بعض الأوراق وأخرج من بينها شهادته الثّانوية بفرعها الأدبي عام ألفين وإحدى عشر والتي تجاوز معدله فيها 226 درجة والتي تخوله دراسة جميع التخصصات الأدبية وأخبرني بأنّه كان يرغب في دراسة الأدب العربي، إلا أنّ انطلاق الثّورة في نفس العام كان حائلاً بينه وبين دراسة الفرع الذي رغب به منذ الصغر وأنّه اليوم أصبح يلقب "بمتعب الكيماوي" بعد عمله في هذه المهنة الشّاقة والسّامة والتي باتت جزءا لا يتجزأ من جسده النحيل الذي يقدمه اليوم قربانا في سبيل عيش أهله في سوريا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.