شعار قسم مدونات

أحمد خالد توفيق.. موتٌك أوجَع الأحياء

مدونات - أحمد خالد توفيق
كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة..، عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيراً.. حقا كانت إقامة قصيرة جداً أيها العراب المُلهم، لم نرتوي بعد من رواياتك وقصصك عنا، وحكاياتك في الأدب والسياسة، وسخريتك من العُمر المنصرم سريعاً، رحلت عنا اليوم وأنت بعد لم تُكمل لنا حكايات ما وراء الطبيعة، وأسطورة الأساطير، وقصص الرعب، تركتنا في منتصف الطريق بعدما تواعدنا على السير معاً وسط عالم يموج بالغباء والفساد، تركتنا أيها الأديب بعدما كنت تُبشِرنا بالأمل الموعود في اليوتوبيا، تركتنا والمدينة على وشك الانهيار بقيادة مجنون أهوج، مَضيت وتركتنا يا سيدي في ممر الفئران مع الرعاع بكل هدوء، غير عابئٍ خلفك بأي شيء، فمن سيُكمل لنا الآن حوارات الخيال الذي كنَّا نُصدقه أكثر من الواقع الذي نحياه؟

 
رحل الدكتور أحمد خالد توفيق المبدع الذي علمنا أن العالم أوسع مما كنا نعتقد، وأننا قادرين على تحقيق أحلام الخيال الناصعة البراقة، كان منّا ونحن منه، يدافع عن أحلامنا، ويؤمن بطموحاتنا، كتب عنا وعاش حياته فخوراً بجيلنا، كان يشبهنا كثيراً جداً في الأفكار والمواقف والمبادئ والقيم والحب والحياة، بل لا أبالغ إن قلت كنَّا نجد فيه طفولتنا التي اشتقنا إليها، كان يُحضرها لنا في رواياته، ويَذكُرنا في مواقفه وحكاياته، لم يترك لنا شيء نُحبه إلا وكتب لنا فيه، كتب لنا عن الموت والميلاد، وحضَّانة الأطفال والكافولة..

 

عزاؤنا فيما تركت لنا من تجارب وحكايات، وقصص وروايات، تعلمنا منها كيف نبني يوتوبيا جميلة، ونصنع من الخيال حقيقة، ومن الأساطير قوة نفسية عظيمة تناطح السحاب وتماثل الجبال

كتب لنا عن الفوازير والكاميرا الخفية، كنا نضحك وعيوننا تدمع في نفس الوقت، عاش معنا الآلام والآمال، لم يخض في الدماء كما خاض أرباب الموائد، ولئام البشرية، ولصوص الحياة، بل كان رجلاً عندما سالت دمائنا، وتهكَّم ممن تهكَّم على ثورتنا، وكان دائما يصف جيلنا بـ "القماشة الهايله"، كان متواضعاً حتى كأنك تراه وقت أن انتهى من عمله كطبيباً واستاذاً جامعياً، يجلس معنا على قهوة مصرية يُحدِّثنا ونُحدِّثه كصاحب وصديق وبن بلد، وهو الأستاذ الجامعي الكبير، ولما كتب عن نفسه قال "لا أعتقد أن هناك كثيرين يريدون معرفة شيءٍ عن المؤلف.. فأنا أعتبر نفسي ـ بلا أي تواضع ـ شخصاً مُملاً إلى حد يثير الغيظ، وحقاً أننا محظوظون لأننا لم نمٌت خجلاً منذ زمن من فرط جهلنا وضعفنا".
   

رحل الخالد توفيق رغم كل ما يحيط بنا من أحداث وكوارث..، كنا نشعر بالأمان لأننا نعرف أن أحمد خالد توفيق هنا سيقول شيئًا ما نضحك عليه، ونرتاح له.. ينتزع الكلام من داخلنا لنقول ما كنا نود قوله، -هكذا رثاه أحد تلامذته-. أدركت الآن والآن فقط معنى الفقد المتجدد الذي لم أشعر به إلا حين فقدت أبي، لماذا هذا الجيل يشعر بالفقد؟ ليس لأنه فقد كاتبا يُحبه، او أديباً يُمتع ذائقته او يُشغل وقت فراغه، وإنما هذا الجيل يشعر باليتم في هذه اللحظة التي فقد فيها إنسانا كان مرآة لآماله وآماله معا، كان بينهما تواصلا أبويا "لقيماني" الروح والكلمة.
 
أو كما قال أحد تلامذته كان "الخالد توفيق" الكهف الذي يأوي اليه هذا الجيل ويحتمي به كلما نال منه الطغاة، وطاردته كوابيس الواقع المرير التي لا ترحم، فكان يجد في روايته كينونته وملاذه و"اليوتوبيا" التي حلم بها يوما في ميدان للحرية، فخذله جميع من هتفوا له.. إلا "أحمد" لم يخذلهم أبداً
في كل اختبار مر به مع هذا الجيل كان ينجح بامتياز، لا تعلم بالضبط من فيهما كان يُربي ويمتحن الاخر. 

  undefined

 

رحل الدكتور أحمد خالد توفيق وترك خلفه جيلاً يقرأ ويحب القراءة، رحل هذا العملاق وترك خلفه أثراً يُروى، وعلامات طٌبعت في القلب قبل العقل تقول من هنا مرَّ أحمد خالد توفيق، ولكن ما الذي بينك وبين ربك يا عراب الحرية لتحظى بكل هذه المنزلة ويكون من نصيبك كل هذه الدعوات التي صاحبت جسدك الطيب إلى مثواه الأخير؟، ما الخبيئة التي كنت تعمد إليها لتجعل جنازتك تتحدث ببلاغة ووضوح كرواياتك وقصصك سواءً بسواء، الآن والآن فقط أعرف كيف تكون النهايات السعيدة بعد مشاهدة جنازتك وآخرُ مسير لك في دنيا الناس، وهي أن تحيا لقضية ولهدف ولغاية.
 
ألا ما أروع الختام إن كان ختاماَ توفيقياً خالداً كختام العراب، على ما فيه من ألم الفقد وصعوبة النسيان، ولكن عزاؤنا في ما تركت فينا من قدوة صالحة، ونموذج مشرف، وإنسان يحيا لغيره بكل تجرد وسعادة، وعزاؤنا فيما تركت لنا من تجارب وحكايات، وقصص وروايات، تعلمنا منها كيف نبني يوتوبيا جميلة، ونصنع من الخيال حقيقة، ومن الأساطير قوة نفسية عظيمة تناطح السحاب وتماثل الجبال.

وختاماً ومع كل هذا الألم النفسي الذي تركه فاجعة موتك في قلب جيلاً كاملاً من الشباب جعلتهم يقرأون وينتظرون رواية بعد رواية، لا نقول إلا ما يرضي ربنا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، والله إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقك يا عراب الحرية لمحزونون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.