شعار قسم مدونات

ذنبه أنه يحمل كاميرا

مدونات - ياسر مرتجى

بالأمس القريب، كان أكثر ما يخيف جنود الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، طفل يحمل حجراً! وبالأمس القريب أيضاً، كان أكثر ما يثير الرعب في نفوس هؤلاء الجيوش، شاب يحمل سكيناً! أما اليوم، فقد صار أكثر ما يزعج المستوطن الغاصب، رؤية صحافي يحمل كاميرا! يصور بها اعتداءات الجيش على المدنيين، تلك الاعتداءات التي تُثبت نقض المُنادين بحقوق الإنسان لفصول اتفاقياتهم، ويوَثق بها لحظة هزيمة جيش مسلح بأكمله أمام شعب لا يملك سوى الحجارة وإطارات لعجلات السيارات.

ياسر مرتجى، ذو الثلاثين سنة، ذنبه الأول أنه فلسطيني الجنسية، وذنبه الثاني أنه يحمل كاميرا، يصور وينقل ويشارك ويغطي أحداث مسيرات العودة الكبرى، عمل بطولي جعل اسم ياسر يحلق عاليا، أعلى مما تمنى أن يحلق هو يوما ما، وسافر به إلى كل القارات متخطيا الحدود الجغرافية والحواجز الجمركية والسياسية التي حرمته من السفر. بذلة الصحافي التي ارتداها لتحميه من طلقات العدو، جعلته هدفا متعمدا لبندقية هذا الأخير، أثناء تصويره لمشهد درامي حقيقي -خال من المؤثرات الصوتية والخلفيات الخضراء- لدخان أسود كثيف ناتج عن حرق مئات بل آلاف العجلات المطاطية، ومتصاعد في السماء، مشكلا جدارا وهميا بين المهاجم والمدافع. جدار -رغم كثافته- أبان عن خوف المهاجم وحالة الرعب التي يعيشها، وسجل هدفا آخر لصالح المدافع المبدع في تسديد ضرباته. كانت تلك هي الصورة التي حاول محبّ التصوير المحترف ياسر التقاطها.

 

لم يكن يعلم ياسر، صانع الأفلام، أن تصوير أفلامه سيتواصل حتى بعد موته، ليكون هو بطلها، وتكون أرض فلسطين ومسيرة العودة ساحة تصويرها

لن تتحول من "ناقل للخبر" إلى "خبر عاجل" إلا إذا كنت صحافيا فوق أرض غزة، واقفا أمام السياج المعدني شرق خانيونس، رافعا سلاحك (كاميرتك) في وجه العدو، ومهددا بالتقاط صور ستنشر بعد لحظات في كل العالم .طلقات الكاميرا أقوى من طلقات الدبّابات أو القنابل المسيلة للدموع، لأنها ترسل صورا توثق الممارسات الإرهابية لجيش الاحتلال، لذا فهي أكثر ما يخيف المستعمر ويرعبه.

يكفي الشهيد ياسر فخراً أنه كان هدفا محدَّد الاسم والصفة، تكالبت عليه قانصات جيش الاحتلال، لتستوطن جسده رصاصة من النوع المتفجر داخل الجسد، وينتفض جسمه معلنا بداية حياة جديدة خالدة، لا نهايتها كما كان يظن صاحب الرصاصة.يكفيه شرفا أنه كان الصحافي الحادي والأربعين في قائمة الصحافيين الذين أصابتهم رصاصات الاحتلال خلال المواجهات الأخيرة، وكان الصحافي رقم واحد الذي استشهد بعد لحظات من إصابته.

 
ليس من الغريب على جيش مسلَح بكل أنواع أسلحة الدمار المتطورة، الممنوعة منها دوليا والمحظورة، بكمية الغباء التي يملكها حامل هذه الأسلحة، ألا يرشده غباؤه إلى أن فعلته هذه وإسقاطه لكاميرا واحدة، سيجلب كاميرات العالم أجمع، لتسلط عدساتها على حدود غزة، وتفضح جرائم جيش الاحتلال تجاه المدنيين، ولتكمل تصوير مسلسل الانتصار الفلسطيني. لم يكن يعلم ياسر، صانع الأفلام، أن تصوير أفلامه سيتواصل حتى بعد موته، ليكون هو بطلها، وتكون أرض فلسطين ومسيرة العودة ساحة تصويرها، وتكون قصة استشهاده هي السيناريو لأفلامه. هو إذن شهيد آخر يرتقي من أرض فلسطين، لكنه شهيد من درجة عالية، شهيد فلسطين، وشهيد الصحافة. قاوم بسلاحه (كاميراته) دون خوف من سلاح الجنود الإسرائيليين، وسجل اسمه في سجل تاريخ المقاومة إلى جانب أطفال الحجارة وشباب السكاكين.

وشهيدنا هذا ليس إلا نموذجا للاغتيالات المتكررة التي تتعرض لها الأصوات الحرة حول العالم، تلك التي تهدد مصالح جهات وتفضح خبايا جهات أخرى. وليس الاغتيال إلا وسيلة يائسة تلجأ إليها كل الأنظمة الديكتاتورية الجبانة الخائفة على مصالحها، لطمس أقلام وإسكات أصوات وتحطيم كاميرات
غير أن صوت جمعة الكوشوك كان أعلى من أن يسكته تحطيم كاميرا، واجتماع الفلسطينيين كبيرهم وصغيرهم، شبابهم ونسائهم على حدود غزة، كان أكبر من أن تفضّه قنبلة مسيلة للدموع، أما دخان الانتصار المتصاعد إلى طبقة الأوزون -والتي سعدت حتما باستقباله، لأنه لم يكن دخانا ناتجا عن تلوث، بل كان دخانا مليئا بروح المقاومة ومفعما بالرغبة في الانتصار- فقد كان أكثر كثافة من أن تبدده طلقات يائسة لأسلحة العدو..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.