شعار قسم مدونات

قراءات في صميم الأزمة الجزائرية

مدونات - الجزائر

تقوم النظرة العامة والمهيمنة على الأزمة الاقتصادية الجزائرية على اعتبارها أزمة ظرفية ومؤقتة لا محالة، وأننا سرعان ما نعود إلى المرحلة السابقة، ويرى آخرون أن هذه الأزمة تعد إنذارًا بنهاية شيء عظيم. ولكن ماذا تراه يكون؟ أهي السلطة الحالية؟ أم المؤسسات العمومية؟ أم سياسات الدعم الاجتماعي المنتهجة؟ فما هي النظرة الشاملة لمحاكاة هذا الواقع المحتوم؟

 

إن عبارة الأزمة الاقتصادية يريدون بها في الغرب الأزمة المالية، وهي ولا ريب أزمة حقيقية قاصمة، أما الجزائر فتُكابد أزمة أشد اختلافا وأعظم وطأة بكثير. فنحن نقرأ كل يوم في الصحف الوطنية: تخصيص ملايين ومليارات من الدينارات لدعم المؤسسات الوطنية لمساعدتها على تقديم خدمات لترقية الحياة اليومية للمواطنين، ناهيك عن صرف المليارات لصالح الدعم الاجتماعي وغيرها..

 
أما بالنسبة لمشكل الارتفاع الفاحش لأسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع بالرغم من الميزانيات السنوية الضخمة التي تصرف لدعمها، فلا يحصل المواطن إلا على ما نسبته واحد على سبعة من هذه الأموال وتُصب النِسب المتبقية أي ستة على سبعة في صالح المؤسسات الخاصة التي تعمل في هذا المجال، وهذا بحسب تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي سنة 2017.

 

الضائقة المالية التي تمر بها الجزائر كانت نتيجة عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من تسيير موارد الريع البترولي بشكل عقلاني ومقنّن، حيث أصبح إنقاذ البنوك الوطنية أولوية تفوق في أهميتها تدعيم الجبهة الاجتماعية

إن طموح القضاء على الفقر التي تعاني منه عدة شرائح والتي تقدر بما يفوق الـ 35 بالمئة من المجتمع الجزائري، وهو الأمر الذي جاء النص عليه في الأهداف الإنمائية للألفية التي وضعتها هيئة الأمم المتحدة، وأقرتها جميع الدساتير الناظمة للدولة منذ 1962 إلى يومنا هذا بما يوافق بيان 1 نوفمبر 1954 والأهداف الاجتماعية التي يصبو إليها لتعزيز اللحمة بين أفراد المجتمع الجزائري والذهاب نحو تأسيس جمهورية ديموقراطية اجتماعية تضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، لا يزال يبدو أمرًا بعيد المنال، وما ذلك لنقص الموارد، بل بسبب غياب اهتمام حقيقي بمصير فقراء المجتمع الجزائري. والحقيقة أن لهذا الأمر صلة رئيسية بالأزمة الجزائرية.

 
الأزمة التي تمر بها الدولة الجزائرية عموما والاقتصاد الوطني على وجه الخصوص كان نتيجة لتراكمات أخطاء جسدت عبر قوانين المالية للسنوات العشر السابقة، وهذا عبر تبني برامج واستراتيجيات خاطئة في كيفية استغلال الموارد المالية والبشرية المتاحة بهدف رسم خطة تنموية تكفل ضمان استقرار الوضع الاجتماعي لخمس عقود على الاقل، ناهيك عن إقصاء كلي للخبراء والمختصين في هذا المجال، مما شاب العملية الاقتصادية والتنموية الكثير من الضبابية والغموض لافتقادها أدنى معايير التخطيط والاستشراف.

 

التدهور المفاجئ لأسعار النفط في الأسواق العالمية بداية سنة 2014 لخير دليل يؤكد على صحة رؤيتنا للوضع العام التي تمر به الجزائر في شتى القطاعات، بداية من إعلان الحكومة عن تجميد كلي للمشاريع التنموية التي كانت في طور الانجاز والتي لها علاقة مباشرة بسيرورة الحياة اليومية للمواطن في مجالات الصحة والتعليم والطاقة والأشغال العمومية، بالإضافة إلى إعلان السلطات العمومية أنها مضطرة إلى خفض الدعم المباشر عن بعض المواد الواسعة الاستهلاك مما أدى إلى ارتفاع نسبي في الأسعار بما يقارب الـ 25 بالمئة. وهذا ما أثر كثيرا على القدرة الشرائية للمواطنين ذوو الدخل الضعيف والمتوسط.

  undefined
 

إن الضائقة المالية التي تمر بها الدولة الجزائرية كانت نتيجة عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من تسيير موارد الريع البترولي بشكل عقلاني ومقنّن، حيث أصبح إنقاذ البنوك الوطنية أولوية تفوق في أهميتها تدعيم الجبهة الاجتماعية جراء التآكل السريع لاحتياطات الصرف النقدية للخزينة العمومية، وهذا لضمان توازن السيولة المالية للسوق الرسمية، ويأتي هذا في ظل غياب استراتيجية حقيقية للتحكم في الموارد المالية المتواجدة في السوق الموازية بغرض دعم الخزينة من إيرادات الجباية النقدية.

 
هنا يمكننا أن نذهب إلى التفكير، استلهاما من فكرة قالها علماء ومفكري عصر الحداثة، في ضرورة الجمع بين تشاؤم المثقف وتفاؤل أصحاب العزيمة والإرادة، ذلك بأن تشاؤم المثقف يقوم على اعتقاد بأن الأزمة المالية الراهنة سيتم تداراكها بوجه من الوجوه، من دون أن تتعرض البنية المؤسسية القاعدية لأي تبديل. حيث جاء سيمون جونسون العالِم الاقتصادي والرئيس السابق لصندوق النقد الدولي FMI معطياً تحليلا للوضع المالي الذي يشهده العالم أجمع، حيث قال: لقد حرصت الحكومات طوال فترة الأزمة المالية على عدم مناوأة مصالح المؤسسات المالية، وألا تعيد النظر في الخطوط الكبرى في الأنظمة التي تأدّت بنا إلى الوضعية الراهنة.

 
بعد تناولنا لبعض جوانب الأزمة التي تمر بها الجزائر، ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن الأقوياء والأثرياء لم يبلغوا من السذاجة مبلغهم اليوم، هم الذين صاروا يضعون ثقتهم في رأسمالية السوق الحرة، وينصحون بها الضعاف والفقراء، فإنهم يعوِّلون كثيرًا على مساعدة، كما نراها في سياسة التأمين العمومي المرتبط بمفهوم الشيء القوي الجبار المتمنَّع عن الإفلاس، وهو الذي يشجع على المخاطرة الكبرى وعلى الربح الجامح، إلى أن يحدث الانهيار العظيم، وفي تلك اللحظة تصير الماليات العمومية مجبرة على أن تهب لنجدتهم، وهذا أمر جارٍ مألوف، ونمثّل له بمجموعة ETRHB HADAD التي حصلت على إعانات هائلة من طرف البنوك العمومية للدولة.

 

أما تفاؤل أصحاب العزيمة والإرادة القوية فمفاده أن تغيرًا أساسيا وممكنًا في المؤسسات التخريبية التي تهيمن على النظام الاقتصادي والسياسي ربما هو يكون هو السبيل الممهدة لاقتصاد وتنمية مستدامة، تواكبه عولمة وعدالة تخدم عموم الناس، وليست مسخرة للمستثمرين، وهي السبيل المُمهدة كذلك لتوظيف مساهمات العصر التقاني العلمي لخدمة هذه المصالح نفسها. فلسنا نعدم الامكانيات، لكن يلزم القيام بعمل هائل من تحويل هذه الإمكانيات إلى احتمالات حقيقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.