شعار قسم مدونات

عن الليل والناس نيام!

blogs - sleep
على امتداد السّنوات الأخيرة، تحدّث الكثيرون حولي عن السّاعات التي تكون فيها إنتاجيّتهم أعلى. بدأ الأمر يشغل فكري أكثر يومَ صرّحت إحدى الأساتذة المتميّزين خلال الدّرس، أنّ توقيت تلك الحصّة الإضافيّة بالذّات – و كانت في أوّل المساء- جاء مخالفا لنسق نشاطها، و أنّها السّاعات التي يكون فيها مردودها في أضعف مستوياته. اعتذرت بشدّة لذلك. ثمّ واصلت تبذل ما استطاعت من جهد للتّدريس. و لعلّ الأمر قد اكتسى جدّيّة غير مسبوقة لديّ، بعد أن شهدت ذلك الموقف بعينه فانطبع بخاطري. و رحت أبحث بدوري عن ساعات الذّروة التي تخصّني من بين أوقات اليوم.
  
و كما هو معلوم، ساعات الصّباح الباكر ساعاتٌ مثمرة مباركة لأغلب النّاس. و لي أيضا أحيانا، إذ جرّبت حلاوة انفتاح الذّهن فيها مع إشراقة الشّمس الأولى. حيث تنطلق العدّادات مجدّدا من الصّفر؛ تاركة خلفها تلك الأحمال الثّقيلة، التي كثيرا ما تُقعدُ صاحبها عن السّعي و تكبّل حركته. و أنا في الحقيقة من عشّاقها و من مريدي فجرها. و لكنّي كنتُ أشعر دائما أنّها ليست بالضّبط ما كنت أبحث عنه. لم تكن الإجابةَ عن سؤالي. و مع تتالي عدد من المعاينات و التّوافقات هنا و هناك، وصلتُ أخيرا لحلّ اللّغز.
  
لقد تبيّن أنّ أنشأَ أوقاتي على الإطلاق يأتي غالبا مع سكون اللّيل. على أعتابه، تتقافز في ذهني الأفكار بل و يرتخي عنان الحدود و المكبّلات حتّى تكاد تُنسَف. و تستقرّ في الخاطر و الوجدان متمّمات الفهم. ثمّ تبدأ في التّرسّب طبقا عن طبق. تنبثق الكلمات، على إثر ذلك، هواءً رحبا بعد بخارٍ متكتّم، لتوصل شيئا من جوهر السّائل الذي نجح في كسر حلقة التّجمّد الخانقة. و تحلّق معها الرّوح حتّى لا يُعرف لها عنوان ثابت بين الخلائق و الموجودات. تتنفّس الحرّيّة بلا شوائب !
  

لا أستطيع أن أعيش دون أن أصافح الليل دوريا وأن يغمرني بمائه الذي فيه أتنفس كسمكة ذات جنسية عابرة للمحيطات

إنّه ذاك اللّيل الذي كتب عنه موباسان قصّة قصيرة امتدّت في كتابٍ يحمله عنوانا. و امتدّت معها سطورٌ خرافيّة الجمال تعدّد ما له، و تعدّ ما عليه من ضمن محاسنه. هو نفسه الذي تحدّث عنه جيلبيرت سينويه قاصدا ابن سينا في كتاب "الطّريق إلى أصفهان"، و الذي ترجمه إلى العربيّة المبدعُ آدم فتحي : " أحَبّ اللّيل. أحبَّهُ اللّيل إلى حدّ اليأس. إنّه اللّحظة المعجزة التي تتمازج فيها الكائنات بالأشياء. كلّ شيء في اللّيل شبيه بكلّ شيء. يصبح الأمير النّائم توأما لخادمه. يصبح الأب نسخة من ابنه. يكفّ الكون عن التّنفّس و يهدأ الهمّ كما تهدأ العواصف. كان ينبغي ألّا تعيش الكائنات إلّا ليلا."
  
و إن عدتُ لي فتمعّنت، وجدتُ أنّ اللّيل يعفيني حقّا من مغبّة التّعاطي مع الضّوضاء و الفوضى المُربكة. يسمح لقواعدي الخاصّة باعتلاء منصّة القوانين. يُسكتُ الأصواتَ التي لا تحترمُ نفسها. يلفّ الرّوح بدفء عطالة الكائنات، بالمعنى الكامن داخلها و المنحني أمام ثقلها. اللّيل فُسحةٌ لا تعبأ بالوقت. تنهار قدرة السّاعات على الرّكض في حضرته، تتعطّب وحدات القيس، تقدّس سرّه. اللّيلُ حرٌّ، وُلدَ ليسودَ بهدوءٍ من خلف السّتار، كحال الكثيرين من البشر الأفذاذ. اللّيلُ هو تلك اللّحظات التي تستقيل النّفس فيها من وظائفها الحضاريّة البسيطة المتعوّدة، لتعقد مع نفسها جلساتٍ راقيةٍ مستخلصة، تحلّ فيها العُقد و تفكّك المجريات و تتنزّل على يديها اللّمعات النّجميّة على أرض الواقع، باتّفاقٍ ملائمٍ صانعٍ للسّعادة.
  
أشعر أنّ يومي الحقيقيّ يبدأ دائما مع نهاية النّهار. حالي في بقيّة اليوم هو حال من يقتاتُ على ما بقي من فتاتِ طاقةِ اللّيلة الفارطة. أُساير المعطيات، أرضى بالموجود، أرضخ لما تطلبه الظّروف و أسير. لا أستطيع أن أُبدعَ حقّا إلّا مع تحيّات الضّوء و إنذارها بقرب رحيله. و إذا ما احتجتُ أن أقاطع جلساتي مع نفسي و خوضي الذي لا ينتهي في الأفكار و ترسّباتها و انشطاراتها، و حلّها و ترحالها، ربّما يجدر بي حينها أن أنام باكرا. نظريّا، الإمكانيّة مطروحة. و لكن، عمليّا، لا أستطيع أن أعيش دون أن أصافح اللّيل دوريّا و دون أن يغمرني بمائه الذي فيه أتنفّس كسمكةٍ ذات جنسيّة عابرة للمحيطات، و فيه أكون، بلا شكّ، إنسانة من نوعٍ آخر. لهذا، و لأكثر منه ممّا لا تحتمل التّنفيس عنه العبارةُ الضّيّقة إذ تتّسع الرّؤية، أحبّ اللّيل و أُحبّني فيه أكثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.