شعار قسم مدونات

طرابلس التي أعرف

blogs طرابلس

تعمّقت مؤخراً في دراسات حول مدينتي وعمارتها وقصصها البسيطة ومجالسها ورؤسائها ونوابها ووزرائها والأحزاب التي كتبت حياتها واحتضارها. منذ بدأت دراستي في العمارة، وربما قبل ذلك بقليل، عشت تفاصيل المدينة بجمالها وقبحها، وبذلت جهداً كافياً في كي يرى كل من عرفت، وكل من لم أعرف.. ما أرى.. ما عشقت.. ما كتبت.. ما صورت.. ما رسمت..  أنانية بعض الشيء.. وبعض الأنانية مبرّر.

سأخبركم قليلاً عن مدينة استثنائية. وأتوجّه بذلك لمن اضطُر للسعي وراء "فيزا النفَس الأخير".. وقضوْا معظم أوقاتهم يملأون فراغ المكان بالضجة. مدينتي.. طرابلس.. كانت في الكتب قلب لبنان النابض.. على الأقل أهلنا وأجدادنا شهدوا على ذلك.. ما شهدتُ، هو قلب يحتضر.. بجمال استثنائي. كل ذاك التشويه والفوضى والضجيج والسرعة، بالنسبة لي هو ما يميّز مدينة بها يروي الحجر أمجاد حضارة عظيمة، ويناقضه الواقع بقصّة مغايرة تماماً. مع ذلك، أشعر بحنين غير مبرّر لماضٍ لم أعشه. لذلك بحثتُ عنه في الكتب. وجدتُ صوراً وأقاويل رحالة وشعراء.. لكن لم أجد قصة واحدة كنت فيها بطلة. فابتكرت قصة بسيطة.

عند السادسة صباحاً، كنت غالباً جاهزة لكتابة القصة. أعيش في منطقة مكتظة بعض الشيء. تملؤها "الحفريات" والتعديات وشجر الليمون.. ورائحة الزهر مع عبق الماضي.. حين كانت الفيحاء.. فيحاء.. عند مستديرة كبيرة، نُهِبَت أشجار الزيتون، واستُبدِلت بالفراغ، وأُحيطت بسيارات كثيرة. تخيّلوا أن شراء ربطة الخبز من "السوبر ماركت" المجاور، بات مغامرة بحدّ ذاتها، بين سيارة أجرة مخالفة وغير قانونية، تقرع "الزمامير" كأجراس الصلاة، وحماقة "أغبياء الدراجات النارية". وصوت المتعهّد وعمّال البناء.. ونساء ينادين على "البوّاب" ورجال يشتمون الحياة ومن خاضها.. ثمّ عند آخر زاوية في الشارع، رجل عجوز صامت.. نفذ كلامه ونفذ وقته.. 

توقفتُ عند
توقفتُ عند "قصر الحلو" أكثر الأماكن شهرة في المدينة.. كان هو الآخر مغلقاً.. وكأن الحياة لا تبدأ في المدينة إلا حين يُسمح لها بذلك
 

حملتُ الكاميرا ودفتري الصغير، واتّجهتُ نحو ساحة التلّ. كان الشارع خالياً تماماً، باستثناء من كان يهرع نحو الباص المتّجه إلى بيروت، وبعض سائقي سيارات الأجرة. الجميع كان ينظر لي وكأنني غريبة مرّت في الساحة عن غير قصد. صرخ لي أحدهم: "طرطوس؟" ابتسمتُ وأكملتُ نحو حديقة الساحة "المنشية"، كانت مغلقة، تنبعث منها رائحة زهر الليمون، ورائحة امتزاج الماء بالتراب.. تلك الروائح.. كم أرغب بالاحتفاظ بها في مكان ما.. وأعود إليها حين يصبحُ الهواء باهظ الثمن.. ثمّ أكملتُ المسيرَ نحو "شارع المصارف".. حيث تختلط ألوان "الزهر" والأصفر.. بالعناصر المعمارية التي تركها الانتداب الفرنسي، قبل مغادرته الأراضي اللبنانية، على يد من كانوا يهتفون للمحتلّ "حريّة!" في ساحة التلّ.

وتوقفتُ عند "قصر الحلو" أكثر الأماكن شهرة في المدينة.. كان هو الآخر مغلقاً.. وكأن الحياة لا تبدأ في المدينة إلا حين يُسمح لها بذلك.. ركبتُ دراجتي واتجهتُ نحو ميناء طرابلس.. المدينة التي بها نشأت. كان منزلي مطلاً على البحر، لا طرقات تخترق الشاطئ ولا بناء عالٍ يخطف ما تبقى من البصر.. مجرد رمالٍ.. وأمواج.. وأفق.. أذكر حين كنتُ في الخامسة عمري.. ملعب "الفوتبول" المقابل لشرفتي… كنت أمرّر أقدامي بين قضبان "الدرابزين" وأجلس لوقت طويل.. أراقب شباب الحارة يلوثون أقدامهم بالتراب. راقبتهم وكأنهم عجيبة من عجائب الدنيا السبع… كنت أنتظرهم مساء الجمعة! وصباح الأحد..

عشتُ طفولة كاملة، أتلقى الهدايا من "بابا نويل" في الشتاء، وأبحث عن لعبة العيد بين "البالونات" صبيحة عيد الفطر.. وأساعد أمي وجارتي الأرمنية في تحضير إفطار رمضان.. بالأحرى في إفساده! صوت الآذان وأجراس الكنائس.. البحر.. الهواء.. التراب.. وأشجار النخيل.. طفولة تكاد تكون تشبه الصورة التي أحاول رسمها الآن.. بقلم الرصاص.. لأن الألوان غير كافية. تفاصيل لم تنضج بعد.. لكن سأحاول في المقالات اللاحقة أن أخبركم أكثر عن طرابلس التي أعرف.. عبر منبر الجزيرة.. لأننا هنا كالرجل العجوز عند زاوية الطريق، نكاد نفقد القدرة على الكلام.. واستنشاق الهواء.. والمشي على التراب .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.