شعار قسم مدونات

نسق القيم في القرآن الكريم

مدونات - القرآن

إن بين مسافة ما نفهمه عن الإسلام، وما نمارسه في حياتنا مسافة شاسعة من الاختلاف، فبين من يدعوا لقتال كل البشرية، ومن يفكر بفقه القرون الوسطى في بناء الدولة، ومن يقتل أقرب الناس إليه بحجة الجهاد وقتال العدو القريب، وبين من يدين بمذهب ابن أدم الأول ولو كان العدو يستبيح النفس والحياة، وبين من يلغي مفهوم الدولة من الإسلام نهائيا، بين كل هؤلاء وبين فهم الإسلام الحقيقي مسافة شاسعة، ومن دون ردمها هذه الهوة العظيمة تضيع معالم الإسلام، وتختفي فكرة الرحمة، بعد أن قرر البعض أن كل آياتها منسوخة بآية السيف، والتي لا يعرف ما هي هذه الآية على وجه الدقة.. فالمهم أنه لا رحمة في القرآن بحسب هؤلاء. ولم يبق منه إلا السيف وضرب الرقاب والبدء من العدو القريب وهو المسلم المرتد على حسب مقايس خاصة لهذا المجاهد المتشبع بمفهوم آية السيف.

إنه لا يمكن للقيم الإسلامية أن تعمل بطريقة مجتزأة بدون عرضها ضمن النسق الكلي، الذي يظهر بشكل بناء متراص يؤلف منها وحدة موضوعية لا تفاوت فيها ولا فطور، إن الخلل التربوي الذي نجنيه على المتلقين اليوم للخطاب الإسلامي، هو نتيجة طبيعية لخلل في النسق الذي تعرض فيه القيم الإسلامية عليهم، فلا يمكن أن نتصور هذا الاضطراب السلوكي والخلل المعرفي عندما نعرض القيم الإسلامية ضمن النسق الكلي.

وحتى نعرف ما هو المقصود بالنسق: هو كل تتفاعل أجزاؤه ويدعم بعضها بعضا، ليقوم بوظيفة معينة واختلال أي جزء منه يؤثر على بقية الأجزاء فهو كل متكامل، فللنسق مدخلات تأصيلية، وله عمليات تفعيل في الواقع، وله مخرجات ونتائج، وهي وظيفته، وله كذلك نظام تحكم يسمح لها بالتعديل والضبط والسيطرة عند المأسسة لهذه القيم.

البعض يطرح إسلاما ميكانيكيا خاليا من الروح حيث يريد علاقة بالأخرين لا تسكنها مشاعر الود ولا البر ومبنية على العدل القانوني، دون الاحسان والقسط

إن كثيراً من الدعاة يختل عندهم النسق القيمي أثناء عرضهم للدعوة، وتضيع عنده البوصلة بين من يدعو إلى الإسلام الجزئي فيضطرب عنده الخطاب الدعوي بسبب اقتطاع قيمة أخلاقية من النسق القرآني الكلي للقيم، فيركز دعوته على قيمة واحدة وكأنها هي كل الإسلام دونما سواها، وأحيانا يقوم الداعية بالدعوة إلى الله تعالى بمفهوم الإسلام الشمولي لكن دعوته بالطريقة المنكوسة، فيعكس نسق القيم ويضع خطاب الحرب في مقام الدعوة، ويضع خطاب الدعوة في مقام الحرب، فيضطرب النسق في تصور ومسامع المتلقين لهذا الخطب. ولقد أبدع المفكر جاسم سلطان في كتابه النسق القرآني، وهو يفصل الحديث عن نسق قيم القرآنية التي تبين سبل العيش المشترك مع الأخرين فيقسمها إلى:

قيم في العمق

في العمق تأتي أول القضايا الكبرى التي تستند على مفهوم الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وفيها أن الدين جاء رحمة للعالمين فما البسملة والفاتحة، ولا سلام المؤمن على غيره من البشر بقوله (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) بعبث، بل هي أمر مقصود، فبسم الله الرحمن الرحيم لها مدلولها، والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم لها مدلولها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته لها مدلولها، وما وصف مهمة الرسول بانها رحمة للعالمين بقول عابث، فعلى بساط الرحمة تتحرك بقية المعاني القرآنية، والرحمة عطاء وليست أخذاً، وهي عطف وليست قسوة.

قيم المساكنة

هنا يطرح القرآن نتائج كل مقررات العمق بالتمييز التام بين مستوى حالة السلم وحالة الحرب
* "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ". الممتحنة.

* "إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون". الممتحنة.

إن العيش المشترك والذي هو الأصل الذي تقوم عليه الحياة ينبني على ذراعين ممدودتين لكل البشر وهما البر والقسط، فما هو البر؟ البر نوعان: صلة، ومعروف.. إن البعض يطرح إسلاما ميكانيكيا خاليا من الروح حيث يريد علاقة بالأخرين لا تسكنها مشاعر الود ولا البر ومبنية على العدل القانوني، دون الاحسان والقسط.

قيم الدعوة

إن البشر في عيشهم المشترك واختلاف أديانهم وأفكارهم تدور بينهم حوارات فالكل يحب أن يقنع غيره بما يراه وفي أعلى درجات الحوارات المستمرة بين البشر يأتي حوار أهل الأديان فما هي طبيعة هذا الحوار في القرآن وكيف وجه الله رسوله لإدارته والتفاعل معه؟ أربعة آفات تعتري الدعاة لمختلف الملل وتهدد السلم الاجتماعي:

* فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر. الغاشية.
* وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ  فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ. ق.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، الأنعام.
أربعة أفكار قاتلة للدعوة: السيطرة، التجبر، دعوى الحفظ، دعوى الوكالة.

عندما يأتي داعية جاهل قد أخذ الإسلام مجزئ، ولا يعرف من هذه الأجزاء إلا قيم الحرب، فيرى أن النسق لا يخدم المفهوم الذي يفهمه عن الإسلام، فينسف هذا النسق بحجة نسخ كل هذه النصوص بأية السيف
عندما يأتي داعية جاهل قد أخذ الإسلام مجزئ، ولا يعرف من هذه الأجزاء إلا قيم الحرب، فيرى أن النسق لا يخدم المفهوم الذي يفهمه عن الإسلام، فينسف هذا النسق بحجة نسخ كل هذه النصوص بأية السيف

 

قيم الحرب

في حال انزلق المجتمع إلى أتون الحرب فما هو موقف الإسلام من هذه المساحة، وما علاقتها بالمساحات الثلاث السابقة وكيف عبر عنها القرآن؟

التدافع بين البشر مطرد فالحرب شكل من أشكال التدافع وهي واردة:

* قال تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ"، البقرة.

إن أفضل وسائل لوقفها هو الإعداد الأقصى لها، لإقناع الخصم بعدم المجازفة بإعلانها فالاستعداد للحرب يمنع الحرب:

* قال تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، الأنفال.

والحرب مكروهة عند الله تعالى:
* "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ"، المائدة.

والنفس البشرية تكرهها:
* "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ"، البقرة.

ولكن لو قوتلت فقاتل ودافع عن نفسك وما عليك من إثم:
* "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ"، الحج.

والعدوان يصد بمثله بدون إسراف في الرد:
* "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" ، البقرة.

عندما يأتي داعية جاهل قد أخذ الإسلام مجزئ، ولا يعرف من هذه الأجزاء إلا قيم الحرب، فيرى أن النسق لا يخدم المفهوم الذي يفهمه عن الإسلام، فينسف هذا النسق بحجة نسخ كل هذه النصوص بأية السيف فإنه يضرب النسق القرآني تماما، وتصبح الدعوة خارج الإسلام تمام لأن النسق مختل.

العودة لقيم السلم بعد الحرب

إن اقتنع الخصم بخطأ مسار الحرب وأراد العودة للسلم، قال تعالى: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"، الأنفال.

فإن استشعرت منهم غدراً وتبيتاَ للعدوان، قال تعالى: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ"، الأنفال.

هكذا نجد أن مفاهيم الحرب في الاسلام تتناسق مع بنية العمق، وبنية التساكن البشري، وبنية الدعوة، ومن هنا نفهم لماذا أصرت مدرسة الحرب والفوضى، على فكرة النسخ الموسع وقالت بأن آية السيف (المجهولة) والتي نسخت آيات الرحمة، فبدون هدم النسق القرآني لا يمكن العبور لفكرة الحرب المفتوحة على العالمين وجر المسلمين إليها. وبين مدرسة الكف التي عطلت مفهوم التدافع واكتفت بدعوى السلم حتى مع من يرقبون عهداً ولا ميثاقاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.