شعار قسم مدونات

عندما اشترت أمي "روج"

مدونات - أم وبنتها

اعتدت أن أصحب أمي كل شهر إلى السوق في موعده الثابت، الذي تُحضر فيه احتياجاتها الخاصة الشخصية، من المبلغ الزهيد الذي اعتاد أبي أن يُخصِّصه لها وحدها لتبتاع ما تشاء رغم قلة راتبه، لا أذكر بالضبط ما هي الأشياء التي كانت أمي تشتريها، لكنها كانت غالباً قطعة إكسسوار لها، أو زجاجة عطر لأبي، وأحياناً تحفة منزلية، أو أداة للمطبخ، أو حتى ملابس لنا لم تستطع مقاومتها فاختارتها متجاهلة احتياجاتها هي، لكن ما أذكره جيداً أن أمي كانت كل مرة تمرّ على محلّ أدوات التجميل لتشتري مجموعة من الزيوت والدهون المفيدة للعضلات والجلد من أجل جدتي التي كانت تسكن معنا، وتُدلِّكها باستخدامها بنفسها طوال الشهر..

 

لم تطلب جدتي ذلك من أمي يوماً، لكنّها كانت تتهلّل عندما تراها وهي تدخل المنزل، وتضحك عيناها عندما تقعان على يدها والكيس الذي يحمل شعار المتجر، ولم يُلزِم أبي أمي برعاية أمه على حسابها، لكنها كانت تفعلُه اختياراً خالصاً، وبرضىً تام، وقناعة مطلقة، حتى جعلَته إحساناً فرضاً على نفسها، ومهما كان ما تريد شراءه، فإنها تحرص على أن يكون الباقي من ثمنه يكفي لحُصة جدتي، وأصبح وجهي مألوفاً لصاحب المحل حتى صار يخصص لي قطعة حلوى موعدَ كل زيارة..

 

كانت عادة أمي تلك مساراً اتبعتُه دون إحساس مني، ودليلاً قادني نحو فضاء رحب من العطاء، وتعلّمتُ أنه دائماً -مهما ضاقت الفسحات-هناك متسّعٌ للأحبة. كانت العلاقة بين أمي وجدتي غريبة وفريدة؛ أشبه بعلاقة حبيب بحبيبه في القرب، وفهم النظرة والإشارة، والإحساس دون النطق، وحوارات الملامح بين الوجوه، وأشبه بعلاقة معلّم صارم بتلميذه في الاحترام، وتقدير المقام، وحساب الكلمات، وتقديس النصيحة، وأشبه بعلاقة خادم بسيده في الخوف والرهبة، واجتهاد التحسين، والخوف من شبهة التقصير، وكان الكلام في هذه العلاقة الغامضة العجيبة معدوداً محدوداً يكاد يكون معدوماً، لكنها هي ذاتها العلاقة التي جعلت أبي -على ضنكه- أسعد الناس و-على فقره- أغناهم!

 

عندما دخلتُ إلى غرفة جدتي لنسلم عليها، وجدناها قد فارقت الحياة! هرعت إلى أمي راكضة ولم يكن في بالي تلك اللحظة سوى شيء واحد: "ماما، ما في مرّة جاية!" 

أما أنا فلم أكن أفكر بنوع العلاقة بيني وبين جدتي، بل اكتفيت منها بابتسامة، ومداعبة شعري قبل النوم يومياً، ودراهم معدودة، وسيل من الدعوات.. لكنني قررت أن أقدّم عربون ولاء يلحقني بركب العطاء، لأكون مثل أمي، وأصبحت عادتي اليومية أن أنتقي لها زهرة من قطعة مزهرة في طريق عودتي من المدرسة، وكانت تلك البقعة من الحشائش البعلية التي تزينها زهور مختلفة الشكل حسب الموسم، وحيدة وسط تراب المنطقة الأجرد المغبر المليء بالحصى، كنت أراها تبدو كموقع جدتي تماماً وسط زحام هذه الحياة، فتغمرني فرحة كالربيع عندما أعود منها بزهرة لا يعنيني لونها ولا رائحتها ولا نوعها، حتى إنني عدت مرات عدة بزهور غريبة وأحياناً مخيفة وأحياناً مضحكة.. المهم أنني كنت أرى على وجه جدتي تلك التعابير ذاتها التي كنت أراها عند عودة أمي من السوق حاملة ذلك الكيس.

 

ذات يوم، وبعد عدة سنوات من زهوري العجيبة، ومن عادة أمي مع جدتي تلك، ومن علاقتهما تلك، ومن الراتب الذي يراوح مكانه، وغلاء المعيشة المتصاعد باطراد، كانت أمي قد قرّرت أن تشتري لنفسها هذه المرة أدوات تجميل من ذات المحل، وعندما اختارت أمي مستحضراتها، ومستحضرات جدتي المعتادة، تفاجأت بالثمن الذي تخطّى حدود نقودها، كانت تتمنّى شراء ذلك "الروج" حديثَ المنشإ ذائعَ الصيت، وتنتظر تلك الفرصة طوال الشهر، شعرت أمي بالخيبة، والغصة، والسخرية في نفس الوقت: "كيف لا يمكنني أن أختار ما أحتاج وأنا التي أمتهن الإحسان والإيثار للجميع؟ كيف يمكن للظروف أن تكون أنانية إلى هذا الحد؟ هل ستتقبل حماتي الفُسحة التي تجرأت على منحها لنفسي بعد كل تلك السنين من التضحية التي لم أتلقَ مقابلها كلمة شكر؟ كيف للبشر أن يكونوا قُساةً إلى هذا الحد؟"..

 

وجدت نفسها لأول مرة تناقش الفكرة لا الحالة، تشُكّ في المبدأ لا الموقف، وتراجع ثبات القرار، وليس وقتِيّة الظرف.. شعر البائع بالإحراج وهو ينتظر أن تقرر أمي، فقرر أن يعطيها نصيحة تُخلصها من حيرتها: " خلص بلاش الروج"، شعرت أمي بالغيظ، وبالإهانة، كأن كل العالم يُنكر عليها حق نفسها، حتى هذا البائع المتطفّل، وفي لحظة سَخط اتخذت قرارها، ورمقته بنظرة زادته إحراجاً، فانشغل ببعض الترتيبات، وبعد لحظة تجرأت أخيراً على النطق بالحكم الذي يقضي بأنها ستشتري الروج، وتتنازل عن مجموعة جدتي.

  undefined

 

خرجنا من المحل، وقد وضعَت الكيس في حقيبتها ولم تحمله بيدها، وعندما سألتُها: "وين حاجات تيتا"، ردت بصرامة: "المرة الجاية". فكرت في نفسي بتلك العبارة التي تعني رخصة ذهبية من ذلك الفرض، وفرصة للتّحلُل من ثوب الإيثار والسخاء، وفتحَت أمامي مكاناً أُنمّي فيه حظ نفسي، وأحاول أن أملأه بأية غنيمة من اهتمام، حتى لو لم أجد لها هدفاً أو دافعاً أو سبيل، وقلت في نفسي: لعلّي اقتنص الزهرة لنفسي يوماً، وأُأَجّل جدتي لـ "المرة الجاية". عندما دخلنا المنزل، كانت جدّتي تراقب أمي ولم تلحظ الكيس المعتاد، فاعتلت وجهها ملامح الإحباط، وانكفأت على نفسها فجأة.

 

كانت أمي تشعر بالرضا، وبالخجل أيضاً، فتحاشت النظر المباشر إليها أو الحديث المباشر معها، وأعلنت بدءَها بتحضير الغداء قبل وصول أبي، كانت أمي تعد الطعام وهي تصارع الحرب الدائرة داخل نفسها، ترى نفسها شيطانة تارة، وتُجبر عقلها على تقبل أنها إنسانة تارة أخرى، تجلد نفسها لإساءتها الأدب، ثم تُهدِئ من روعها أنها لم تفعل شيئاً إطلاقاً! وبعد أن هدأَت قليلاً كان الغداء قد نضج، وأبي قد وصل.

  

وعندما دخلتُ معه إلى غرفة جدتي ليسلم عليها ككل يوم، وجدناها قد فارقت الحياة! كانت جالسة بوقار، تتّكِئ إلى الجدار، وترفع رأسها بكبرياء، غير أن ملامح وجهها كانت حزينة جداً، وعلى صدرها تحتضن ألبوماً يختزن السنين في صور، والذكريات في بطاقات.. تركتُ أبي منشغلاً بالصدمة، ومحاولة إيقاظها، وغرقت في دموع الذهول، والزهرة التي لم أقطفها بعد، والتي قررت أن أتقاعس عن قطفها، وهرعت إلى أمي راكضة ولم يكن في بالي تلك اللحظة سوى شيء واحد: "ماما، ما في مرّة جاية!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.