شعار قسم مدونات

عندما أنصت يعقوب ليوسف!

blogs - mother
‎حاولت أن أنمق ما سأكتب، كتبت كثيراً، وحذفت أكثر، لكني في النهاية، تركت الأمومة التي تحيا بداخلي تقودني لأكتب…‎ في غربة وأمومة، آمال وطموحات فتاة، غريزة أمل، مشاعر زوجة، ومشقة ونهك ربة بيت. في لهث وسعي إلى تربية أبناء أسوياء، سعداء، عدول، صالحين، مصلحين، نافعين غير مضرين. وفي مغامرة تربوية يملؤها، النهوض والتعثر، العزم والانتكاس، النجاح والفشل، والمحاولة والصبر والدعاء.
    
في تيه هذا كله! وجدتني أسمع قوله تعالى: ‎﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ٠ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ٠ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
   
تأملت في سؤال صغيري عندما يسألني! بل تأملت في حالة صمتي أحياناً بعد السؤال، الذي لم يفصل سائله عني سوي قدم وربما أقل!‎ تفرست ملامح خيبة طفل، لم يلقي الإجابة، أو لقيها بدون اهتمام! ‎يعقوب عليه السلام تأمل في قول صغيرة لم يقل له (إذهب وأكمل نومك، أو ما هذه الخرافات)! ‎يعقوب أنصت وتدبر، وحاور يوسف عليه السلام! بل زاد واستفسر، وكيف رأيتهم؟ ‎قال"رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ" ثم بدأ يوخّى ويحذّر، ويطمئن وينصح!‎ أربكني ما سمعت، وتصورت كمّ الحسن في علاقة الإبن وأبيه، وحسن السماع والحوار! ووجت تيه عقلي ثانياً، في كتابه الذي لا ينطق عن الهوى سبحانه: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أن تسمع هو أن: يصل الصوت إلى أُذنك دون قصد وبدون انتباه أو استيعاب. وأن تستمع هو أن: تستقبل الصوت بقصد وانتباه.
    
إن كل لذة في الحياة بلا قيمة، إن لم نتقاسم معها قول أبنائنا، بل إن كل نجاح يبقى باهتا إن كان مقابل صمتهم

أما أن تنصت فهو: شدة وصول الصوت بقصد، مع الانتباه والتركيز وعدم الانقطاع، وحضور القلب. ‎ووجدتني أردد: نسمع نحن أم ننصت؟! عندما أنصت يعقوب ليوسف عليهما السلام: ‎أخرج شجاعاً، لا تخيفه عتمة بئر.  ‎أخرج سوياً قوياً متمرداً، أمام كيد وشهوات النساء. ‎أخرج متحملاً جلداً، أمام الظلم والسجّان. ‎أخرج ملكاً، حكيماً، راعياً ،عدلاً، فطناً، مدبراً. ‎أخرج من يقول لإخوته بعد المكائد: ﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ ﴾
  
‎إن إنصات يعقوب ليوسف عليهما السلام، هو حياة تربوية كاملة، تدندن حولها أساليب التربية، وكتب التنمية، وكورسات التغيير، وأحلام وأمنيات أباء وأمهات، وجروبات سنة أولى مامى! أدركت وقتها ‎أننا نسمع أبنائنا ولكننا لا ننصت لهم! ‎ أننا نفقد الإنصات، نفقد النظر إلي عيونهم، نفقد استحضار القلب، وترك الهواتف والشاشات. مازلنا لا ندرك الهدف من أسألتهم! مازلنا لا نبحث عن مغزى سؤالهم! مازلنا لا نصبر على الشرح الطويل، و نسأم من التكرار، و ننزعج من الأصوات، ومازلنا لا ندرك أهمية بساطة قولهم!  إن كل لذة في الحياة بلا قيمة، إن لم نتقاسم معها قولهم. بل إن كل نجاح وسرور يبقى باهتًا، أن كان في مقابل صمتهم.

          
إننا نربي ليس لعزوة وذرية فقط، إننا نسمعهم لنحظى بحب، ورفقة وأنس، كل المقتنيات لن تعوضهم غيبة النظر اليهم، والاهتمام بقولهم، وكل نجاحاتنا في الدنيا، لا تساوي سوى وعاء إلهاء عن عدم إصغائنا لهم. وجحيم الدنيا ليس لأنهم لم يجدوا من يحبهم! بل أشد الجحيم هو أن من يحبهم لا يسمعهم! إنهم يحتاجون إلى استعارة آذاننا ليتذوقوا بها نغم الحياة! ألا فقد آن منحها لهم ؟! أدعو الله سبحانه أن يلهمنا الصواب، وأن يرزقنا الحكمة، والفهم، والصبر والعون في تربيتهم، حتى ننعم بصلاحهم في الدنيا، و حتى نستحق دعوة ولد صالحة فى الآخرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.