شعار قسم مدونات

لماذا يدعم اليساريون العرب نظام بشّار الأسد؟

مدونات - داعمي بشار

كشفت الثورة السوريّة أنّ اليسار العربي يعيش أزمة "وجودية" حقيقيّة وهو مدعوّ إلى إعادة تعريف نفسه وتكييف دوره مع حالة عربيّة طارئة تستدعي أدواتِ تفكيك جديدة، ولا نخال هذا ممكنا إلّا بالتخلّي عن "اليساريّة" نفسها، وحتى الحديث الممجوج عن "اليسار القديم" نراه" تسويقا لفكرة "اليسار الجديد" هروبا من الإقرار بـ "موت اليسار"..

 

هؤلاء اليساريين في سوادهم الأعظم مازالوا يتعاطون مع الواقع العربي من منطلق العداء الإيديولوجي المركزي للإمبرياليّة الأمريكيّة، وهو ما جعلهم يدعمون نظام بشّار بزعْم أنّه "عدوّ" للمشروع الأمريكي وللكيان الصهيوني أداة هذا المشروع، هؤلاء لا يؤسّسون أفكارهم على مفهوم ماركسي أكثر واقعيّةً وهو مفهوم "الصراع الطبقي" لذلك هم لا يروْن معاناة الشعوب بل "بطولات" الأنظمة "المتناقضة" مع "عدوّهم التاريخي"، بالنسبة إلى هذا اليسار لا يهمّ انسحاق الفرد المهمّ أن تبقى جذوة الانعتاق الجماعي من ربقة الهيمنة الرأسماليّة، "المفاجأة" الّتي اكتشفها هؤلاء هو وقوف كلّ من واشنطن رأس الكفر الاجتماعي إن صحّ التعبير والكيان الصهيوني الامتداد العضوي للتوسّعيّة الغربيّة إلى جانب الأسد، هذه بلا شكّ صدمة معرفيّة عنيفة أصابت كثيرين منهم غير أنّ الهروب إلى الأمام يبقى بالنسبة إليهم أسهل بكثير من التراجع عالي الكُلفة سياسيًّا ورمزيا!..

  
هذه النقطة تُحيل على قضيّة "الإسقاط" أي التعسّف على الواقع بالماركسيّة بدلا من فهم الواقع بأدوات "الماركسيّة"، قلّة قليلة من اليساريّين العرب (سلامة كيلا نموذجا) تفطّنت إلى فخّ "الوعي المعلّب" الّذي يحوّل ضحاياه إلى "نسَقيين" ينزّهون روسيا (الاتحاد السوفييتي سابقا) من توصيف "دولة إمبرياليّة" فقط لأنّها تُعادي -أو هكذا شُبّه لهم- الولايات المتحدة!..

  

يبدو أنّ قطاعا واسعا من "اليساريين الماركسيّين" مازالوا يتوهّمون أنّهم من أصحاب الياقات البيضاء والأعلوْن وعيا حتى ولو كانت رجعيّتهم الفكرية والأصوات التي يجمعونها لا تؤهّلهم لذلك

كما يشترك (أو يتقاطع) "اليسار" مع النظام السوري في نقطة توظيف القضيّة الفلسطينية شعارا يجسّر الهُوّة بينه وبين الجماهير العربيّة دون التصاق حقيقي بالقضيّة وليس أدلّ على ذلك من الصمت المطبق لقطاع واسع من اليساريّين أمام الحصار الّذي فرضته قوات الأسد على مخيّم اليرموك (الفلسطيني) !..

 
في سياق متّصل نحيل على الوضع العام في سوريا بين عامي 2000 (تاريخ وصول الأسد الابن إلى السلطة) و2009 (تاريخ العودة إلى الدولة البوليسيّة "الحافظيّة") في "انفتاح سياسي" محدود عُرف بـ "ربيع دمشق" الّذي يمكن اعتباره "ربيع اليسار " حيث فُسح المجال لشخصيات يساريّة شهيرة للنشاط (رياض الترك نموذجا)..

  

عامل آخر يقف وراء هذا الموقف اليساري الغالب تُجاه الثورة السوريّة، معظم اليساريين العرب "علمانجيّون" أي إنّهم يقيمون بنيانهم "الفكري" على أساس ضدّي استعدائي تجاه جمهور "الإسلاميين" ويحرصون على عدم الوقوف على أرض واحدة معهم ولو جزئيًّا أي مرحليًّا وإزاء حالة بعينها، هذه "الدوغمائيّة" لا تُبرَّر بالخصومة الإيديولوجيّة فقط بل تفسّرها أيضا وخاصة الخصومة السياسيّة إذ يحظى الإسلاميون بالتفاف شعبي كبير يجعلهم نظريا أقرب إلى السلطة..

  undefined
 

يبدو أنّ قطاعا واسعا من "اليساريين الماركسيّين" الذين لم يعد لهم من اسمهم نصيب مازالوا يتوهّمون أنّهم من أصحاب الياقات البيضاء والأعلوْن وعيا حتى ولو كانت رجعيّتهم الفكرية والأصوات التي يجمعونها لا تؤهّلهم لذلك، هم يتشوّفون إلى الصعود السياسي ليس عبر فكرة ناظمة وطرح واقعي متماسك بل عبر مشروع ثقافويّ هوَوي ضدّي يتحدّد نقيضا للإسلاميين، هم مستعدون لقطع رأس الثورة نفسها إذا كان "الإسلام السياسي" جزءا منها لم يحتفظوا من تراث الشيوعية الغابر سوى بقولة عدميّة لمكسيم غوركي :"خُلقنا لنعترض!".

  
قصارى القول.. اليسارجيّون يروْن صراعهم مع الإسلاميين صراعا صفْريا حدّيًّا لا تنافسيًّا سجاليًّا يحتمل التقارب والتباعد حسب السياق والموضوع، فما فتئوا يمثّلون قوة جذب إلى الوراء مختفين خلف مقولات لا علاقة لها بالفكر اليساري الأصيل (التاريخي)، فهم لا يتورّعون عن ادّعاء يساريّة شعارات جميع الثورات عدى "السوريّة" متجاهلين حقيقة أنّ "الحريّة" تاريخيّا هي شعار بورجوازيّ، وفي قطعة مسرحية من الكوميديا السوداء صار هذا اليسار يناصر الديمقراطية كما لم يناصرها أحد بدعوى التأقلم و التكيّف الإيديولوجي مع مستجدّات يبدو أنّ جميع دول الثورات قد شهدتها إلّا سوريا، فيْض من التأصيل النظري المتعسّف الّذي تتخفّى خلفه مزاعم "التأقلم" رغم اننا نعلم علما يقارب اليقين بأنّ الماركسيّة اللينينيّة -التي يزعم معظم اليساريين الانتساب إليها- نسق فكري مغلق وكتلة مُصمتة من الأفكار غير القابلة للتعديل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.