شعار قسم مدونات

كيفية "انهيار السلطة".. في خطوتين!

blogs - Egypt Revolution

"الثوري الذي ينفي كل ما هو قائم ويرفض الإصلاح، فغالباً ما ينتهي إلى أيديولوجية شمولية وإلى استبداد من نوع جديد..".

 

"الثّورة ليست صراعاً بين الأشرار والأخيار، ومن يصنِّف طرفيها بهذا الشّكل يرتكب عدّةَ أخطاء، قد تتحوَّل إلى خطايا. فهو يحمِّل المظلومين أكثرَ من طاقتهم، ولا يصبحُ قادراً على فهم التّجاوزات والأعمال المشينة، ولا حتّى الجرائمَ التي تُرتَكب خلال الثّورات، وهذا خطأٌ؛ كما أنّه لا يصبح متجرِّئاً على نقدها وإدانتها حين يشخّصها، وهذه خطيئةٌ للمثقف العمومي.

 

وعلاوة على ذلك، فإنّه يُعمِّمُ هذا الحكمَ شبه التكفيري على النظام مع الجهل بطبيعةِ الأنظمة وبنيتها وكيفية تغييرها والحفاظ على استمرارية الدولة. ويسير في اتِّجاه خطير هو تغيير الأفراد العاملين فيها، وكأنّ ذلك تصفيةٌ للأشرار، من دون تغيير طبيعة النِّظام بالضّرورة، وهذه وحدها خطيئةٌ."

عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة.

تنتصرُ الثورات عندما تبعد عن طلبها -لقمة العيش- وعندما تنجح فعلياً في قلب الأوضاع وإحداث تغييراتٍ هائلة في الأسس التي تقوم عليها علاقاتُ السيطرة في مجتمعٍ ما، بحيث لم يعد القوي قوياً، ولا الضعيفُ ضعيفاً، وكثيراً ما يُقصد بـ"انهيار السلطة" أنه انتقالُ ثقلِ القوة المهيمنة من جهةٍ إلى أخرى، وهو أصلُ ظاهرة تداول الأيامِ بين الناس، والتي اُشتقّت منها -لغوياً- مفردةُ "الدولة" بمعنى السلطة، هذا في الأصل اللغوي بعيداً عن الاصطلاحات السياسية الحادثة، فالدُولُ إذن من المداولة والتداول، ويظهر أن الذي يُتداول هنا هي "القوة"، التي هي سرُّ السلطة، فهي القدرةُ على فرض الإرادة على الآخرين، وما كان ذلك ممكناً إلا بالاستحواذ على مصادر هذه القوة والنفوذ، وهذه المصادر -إجمالاً- مادية ومعنوية، وهاتان الثنائيات تربطهما علاقةٌ جدلية، فقد تنتزعُ القوةَ مشروعية الضرورة، وقد تنزعُ المشروعيةُ قوةً استندت إلى الواقع. وبكل حالٍ، فإن المشروعية كالعدل، تظلُّ قيمة سامية، لكنها بلا أي فاعلية إلا بقوة تجعلها نافذةً.

الانحلال المادي يسبقه انحلالٌ معنوي على مستوى القيم والمعايير، بمعنى أن الواقع الاجتماعي ينهضُ على جبهةٍ معنوية، ولا بدَّ للمحافظة على تماسكهما من صيانة الأساس وإمداده بقيم العدالة الاجتماعية

إن انهيار السلطة وتلاشيها بالكامل سيعني أن القوة المهيمنة قد أفلتت من الجميع، فلم تَدُل -من التداول- من أحدٍ معين إلى معينٍ آخر، وهو ما سيؤدي إلى اندلاع الفوضى، لأن غياب القوة المنظّمة والكابحة للقوى المتصارعة، (والتي لم تكن كذلك -أي السلطة- إلا لأنها امتلكت القوة المسلحّة، أو ما يعبّر عنه ماكس فيبر بـ"احتكار العنف")، واختفاؤها فجأةً عن مجتمعٍ ما؛ سيعني أن تلك القوى المتصارعة -قبائل أو أحزاباً أو جماعات أو غير ذلك- باتت مطلقةَ اليد، وستَحْتَكم إلى قوتها الذاتية لحفظ وجودها وصيانة مصالحها، فكلُ مهددٌ الآن. وستعتمدُ على منطقها الخاص ورمزياتها ومعنوياتها، أي ثقافتها الخاصة، في حشد أتباعها لينحازوا إليها ضد الآخرين، ومن طبيعة الانحياز أنه مزدوج، لأنه يتركّبُ من بُعْدين، هما: "مع" وَ "ضد".. هؤلاء الآخرون الذين سيُنظرُ إليهم -بغتةً- كما لو كانوا غرباءَ مناوئين..!

وهذا يعني أيضاً تراجع وانحسار كل القيم والمبادئ التي تُشكّل ما يمكن اعتباره مصلحةً مشتركة وعامّة، لتتقدم المصالح الخاصة والجزئية، إلى أن تحلَّ محل الأولى، بل وتلغيها، متساوقٌ ذلك وانتقالَ الولاءات إلى دوائر اجتماعية أضيق، ارتكاساً إلى الالتفاف حول العشيرة عن فكرة الولاء للدين أو الوطن، وكلُ هذا يعبّرُ عن تصدعات تعاورت مجتمعاً ما، وفكّكته.

 

ولعلَّها الحال التي تعمُّ فيها الفتنة ويختلطُ فيها الأمر، وهي ما جاء وصُفها في الحديث الشريف بـ"الهرْج"، بحكم تعدد مصادر الظلم والعدوان الذي لا رادع له، وهي ما يشبه مرحلة ما قبل نشوء الدولة في المجتمع البشري والتي كان توماس هوبز يرى فيها "حرباً للكل ضد الكل"، وبهذا سنعلمُ مبلغَ حكمة تلك كان النصيحة النبوية الكريمة التي يرشدُ فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى فضيلة الإمساك عن التحريض والقول، والاستغراق في العبادة، إمعاناً في الانصراف عما لا علاج له إلا الانصراف، كما في قوله: (العبادةُ في الهرج كهجرةٍ إليَّ)، رواه مسلم وغيره، والذي أظنه أن الكثير من النصوص والمأثورات الحكيمة التي فيها الأمر بالكف والاعتزال محمولةٌ على هذا المعنى، فهي إذن ليست من الانسحاب السلبي، بل التوقف حينما يجمل التوقف، فمن إخماد النار أن تمتنع عن جلب الحطب وإلقائه فيها، فهو فعلٌ في صورةِ كفٌ.

ومما قد يُستخلصُ مما مضى أن "انهيار السلطة" يشتملُ على صورتين:
أولها: تفتّت القوة الواقية للشرور، مما يؤدي إلى انفتاح أبواب الفتنة والهرج. فهذه فتنةٌ، وكما جاء في الحديث الشريف أن (القاعد فيها خير من الماشي)، رواه الشيخان.

الثانية: مقاومة القوة بقوة أخرى مكافئة لها، إقامةً للعدل، وإقراراً للقسط بين الناس، بمعنى انتزاع السلطة ونقلها. فهذا جهادٌ في سبيل الله، الماشي فيها خيرٌ من القاعد.

وأيضاً، فإن الانحلال المادي يسبقه انحلالٌ معنوي على مستوى القيم والمعايير. بمعنى أن الواقع الاجتماعي ينهضُ على جبهةٍ معنوية، ولا بدَّ للمحافظة على تماسكهما -أي القاعدة والبناء- من صيانة الأساس وإمداده بقيم العدالة الاجتماعية والحقوق، ليثبت البناء وتتكامل أنساقه ويشتد أزره، وهذا هو المجتمع الذي يستعصي على الفتن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.