شعار قسم مدونات

حَتَّى لاَ يطمعَ الذي فِي قلبهِ مرضْ

مدونات - المرأة

رأيتُ نسَاءً وطالبات جامعيات أو حتى من هنَّ أصغر سنًا يحططنُ من قيمة أنفسهنَّ مع أصحابِ المحلاَّت وحرَّاس البوابَات ومع أسَاتذةٍ وإداريينَ، بل مع كلِّ من هبَّ ودبَّ من الرّجال. إنّي لا أبالغُ حينَ أصفُ أسلوبَ حديثهنَّ "بالقذرِ الخبيثِ" لأنَّه أوجعَ قلبي، ليسَ اشمئزازًا بقدر ما هيَ شفقة وأسف! وأنَا بوصفي هذا لا أقصِدُ شخصهُنَ بالقذارَة بل تصرُّفاتهن! لمَ كلُّ هذا الانحطاط؟ ولمَ كلُّ هذا التنَازُل؟ لأجل أي غرض!

 

هيَ تساؤلات عرفتُ لاحقًا أنَّ الأسباب تتعدد بين نفسي دافعُه عقدٌ وأهواءٌ يغذيها الشيطان، ومنها الأخلاقي يعودُ لقلَّة التربية وانحراف الفطرة وفكري بسبب ترسبات مجتمعية وجهل متراكم. والمشكلَة أنَّ شعوبنا لا تقرأ فلا يُفهمنَ ولا يعرفُ سببٌ خضوعهن في القولِ والفعلِ بل إنَّ من النَّاس من يتلذذ بهذه التصرفاتِ الرديئة، والمشكلة التي سأعالجها تخصُّ تعوَّد كثير من الرجَال على التعامل مع هذه الأصناف فأخذوا فكرة خاطئة تكاد تكون سائدة، فظنُّوا أن كل النسَاء سواءٌ.

 

أقصدُ بعض المحلاَّت لأقضيَ حوائجِي وأقتني مشترَياتي فإذْ ببعض أصحاب المحلاَّت يحاولُ عبثًا المزاحَ "الثقيل" المتَجاوزَ لحدُود الأدبْ. والحيلةُ أنني أستخدمُ أسلوبًا لا يتجاوبُ معه كثيرُون لكن أغلبهم يتجَاوب مع التكرار. وقبل أن أقدِّم بعض الطرق التي أتخذها لوضع حدٍ لكل متجاوز، أنوهُ لأمر مهم جدًا لاحظتهٌ من خلال تجاربي وتعاملاتي:

 

غالبا ما ألتزم الصمتَ في المحلات وأسأل قدر حاجتي فقط وهو ما يحميني كثيرًا من الدخول في حوارات حول خصوصياتي، لأن من التجار والإداريين من يبادرون بطرح أسئلة في أمور لا فائدة منها

إنَّ التجارَ أو الإداريين وغيرهم ممن نتعامل معهم من الصنف المذكورِ قبل تعاملهم ينظرون للهيئَة العامة للمرأة المشترية، فلباسهَا وشكلها يعطيهم انطبَاعًا حولَ صنفهَا. كثيرُون يحترمونني لزيي، غيرَ أن منهم من لا يفعل سواءً بحجاب أو جلبابٍ، خاصَّة وأن الجلباب أصبحَ موضة. لكن لاحظتُ عدمَ تجاوزهم مع التي تلبس الخمار الطويل والحجابْ -الذي تُعرف به الأخوَات-. ولاحظت في حالتِي حينَ ألبس أحذية عادية مسطحَة غير ذات ألوان وزراكش فهم يكونون أقل وقاحة وتجاوزا في الحديث والنظرات. وحين ألبسُ حذاءً بكعبٍ يكون لهمْ بعضُ الجرأة. والحق أقول أني لا أفهمُ لمَ يرونَ في الكعبِ مؤشرًا للوقَاحة أو الانحلال. (والكعب الذي أقصده عاديٌ جدا مقارنة بالكعب الجذاب المتعارف عليه ومع ذلك يمنحهم انطباعا غريبا).

 

الأهَم نعودُ لموضوعنَا، عن بعض ما أفعله لأتجنَبَ هذا الأذى. وأدري أنَّ ما سأكتبهُ سيبدُو غريبًا للبعض! لكنْ أرجُو أن تأخذُوا المفيد من الفكرة. إني أفعل ما أفعله حرصًا على نفسي أولا وإرضاءً لله تعالى وسعيًا لعدم تجاوز ما منع الشّرع وحرصا حتّى على هؤلاء الذينَ يضعون النسَاء في سلة واحدة ولا يحرصونَ على آخرتهم فنجدُ أنفسنَا أحرصَ عليهم من أنفسهم.

 

•إنّي حينَ أدخل محلاً أو أحدثُ إداريًا أو أيًا كانَ ممن أتعاملُ معهم أستخدم تحيّة الإسلام "السلام عليكم" وأحاول نطقها عربية، وقد رأيت الأثرَ على البعض منهم فإن هذا النوع من السلام يبني حاجزا من الاحترام (أو "القْدَرْ" كما نقول في الجزائر) ولا ينجح الأمر مع ثلة قليلة منهم.

 

• ثانِي خطوة، أسلوبُ الكلام معهم يكون هادئًا محترمًا وباردًا بعيدًا عن كثرة الثرثرة والميوعة والضحك مع تجنب التحاور غير الضرُوري. وغالبًا أدرج مصطلحات كـ "من فضلك" أو "اسمح لي" مثلا: «من فضلك، وشحال هذي؟»، «اسمح لي نسألك، هذي فيها لون واحد فقط؟» وتجنب استخدام مصطلحات أجنبية بالفرنسية أو الانجليزية -في بعض المناطق- كونها تمنحهم منفذا ليحاولوا تجاوز الحدود، ولا زلت أستغرب منهم ذلك لكنني أحاول أن أجد مبررا في كل مرّة. غير في مناطق أخرى من البلاد لا يأثر إن استخدمنا مصطلحات أجنبية خاصة الشمال حيث العاصمة وما جاورها من ولايات تُستخدم فيها الفرنسية بشكل عادي.وهذا الأسلوبْ يبرز لهم أنّ لا رغبة في تجاوز هذا الحد من التبادل الكلامي. البعضُ يحترم ذلك. بَيدَ أن منهم من يحاول خلق حوار خارج الموضُوع، وكما ذكرت سابقًا عن التجار الذينَ يكررون «تخرج عليك، جيك قد لاطاي ڨدڨد» (أو هذا الثوب يناسب حجمك تمامًا) هؤلاء يجبُ تجاهل ملاحظاتهم أو الرد ببرود مثل «إيه راني نشوف براحتي» أو «إيه صحَّا».

  undefined

 

• غالبا ما ألتزم الصمتَ في المحلات وأسأل قدر حاجتي فقط وهو ما يحميني كثيرًا من الدخول في حوارات حول خصوصياتي، لأن من التجار والإداريين من يبادرون بطرح أسئلة غريبة والنبش في أمور لا فائدة من الحديث فيها.

 

• حينَ أفرغ من الشراء أو تأمل البضائع أو قضاء أموري الإدارية، غالبا ما أشكر صاحب المحل إن كان مهذبا أو على الأقل لازما لحده، سواءً بقول: «يعطيك الصحة، شكرا» (بلهجة جزائرية) أو جمل مثل: «بارك الله فيك، شكرا» وأغادر بعد إلقاء السَّلام.

 

• التعامل الذي ذكرته هو على العموم حيث أعيش وبناء على ثقافتي مجتمعي، غير أن لي أساليب أخرى أتعامل بها تكون أكثر مرونة مع أشخاص من ثقافات أخرى ممن يختلفون عني فكريا، عقديا، لغويا، جغرافيا وغير ذلك. لأن من آداب التعامل هو معرفة ثقافة الشخص والتعاملات المناسبة في مجتمعه حتى أتمكن من النجاح في عملية التواصل وأترك الانطباع الحسن.

 

الذين يظهرون ذرة وقاحة أو تجاوز "من التجار أو البائعين" فإني أتحاشاهم جدًا وأصبح حجرًا جامدًا، وهو ما أراه حلا رادعا ولائقا بهؤلاء حتى يعقلوا ويدركوا أن النساء لا يجب معاملتهن هكذا

من المهم التنويه إلى حقيقة أنه في حالات معينة يمازحني البعض ممن تختلف خلفياتهم الفكرية والثقافية عن خلفياتي وكوني لا أحب أن أترك انطباعا ثقيلا عني فأفقد فرصة عمل أو تعاملا معينا أستفيد منه في خبراتي وأعمالي فإنني أتماشى مع المزاح في إطار لا يخرج عن نطاق الأدب والاحترام من باب كسب الفرصة ثم فرض احترامي لاحقا بالأدب وحسن المعاملة وتوضيح نمط تفكيري.

 

من الناس من قد يصنف هكذا تصرفات بالحرص الزائد وقد ينصح بعدم التعامل بجدية لكن في الحقيقة أتعامل مع الجميع بحرص وانتباه لأستفيد من التعامل معهم بهدف إيجاد أسلوبِ للعيش بشكل أفضل مع ضمان عدم خسارة أي شخص أو أذية أي أحد وحفظ كرامتي وكبريائي. ولأوضح أكثر فإنَّ الأمر يتعلق ببعدين اثنين:

 
• البعد الديني، لأني لا أريد أن أتجاوز حدودي ولا أريد أن أجمع ذنوبًا يصعب محوها أو حتى الاحساس بها.

• البعد الثاني له علاقة بالإيتيكيت العام الذي أعيش به. في الحقيقة، إنني لا أحب أن أُعَامَل كساقطَة (كما رأيت البعض يعاملون الفتيات ويحدثنهن) أو كفتاة مائعة وما يسمونه "منفتحة أو overte"، أفضل انغلاقي في هذه الحالات لأنه يضمن لي أنني لن أعرض كرامتي ونفسي للأذى وما أسميه "الدْصَاره والدُّخصْ" (مصطلحان يستخدمان في عدّة مناطق بالجزائر واصفين ذلك النوع من التعامل حيث يسقط فيه الاحترام ويكثر فيه التجاوز باسم المزاح والمرح وهو في الحقيقة وقاحة) لأنني أحترم ذاتي وأفضل أن أعَاملَ كسيدة راقية تماما كما أجتهد لمعاملة الجميع برقي واحترام بغض النظر عن خلفياتهم. وإني أكون أقل حزمًا مع الذين يلزمون حدود الأدب، أما هؤلاء الذين يظهرون ذرة وقاحة أو تجاوز فإني أتحاشاهم جدًا وأصبح حجرًا جامدًا. وهو ما أراه حلا رادعا ولائقا بهؤلاء حتى يعقلوا ويدركوا أن النساء لسنَ متشابهات ولا يتصرف بنفس الطريقة ولا يجب معاملتهن بنفس الأسلوب.

  

ختامًا، أوجّه رسالة للسيدات أولا فأوصيهن بتقوى الله في أنفسهن وفي الرجال من حولهم، وأن يحرصن على التعامل بحدود الشرع لأنّها تحفظهن وترفع مقامهن، وأسألهن -تلك اللائي يحقرن من شأن أنفسهن- أن يفكرن مليا في الأمر، وهل تفضّل إحداهُن أن تُعامل كسيدة يُحسب لها ألف حساب ويغض البصرُ لها احتراما وتعلو مقامًا في أعينهم؟ أم تفضل أن تبقى رخيصة في أعينهم يدوسون عليها بالقول والفعل والنظرة فلا هي حققت ذاتها واعتدت بأنوثتها ولا هي كسبت احترام أحد منهم أو جعلت لنفسها قيمة ومقاما؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.