شعار قسم مدونات

بين "العصابات" و"الجيوش".. كيف يحارب الثوار السوريون؟

مدونات - سوريا

"الشيء الجوهري بالنسبة لمحارب العصابات، في الطور الأول، هو أن لا يدع نفسه يُباد"

(آرنستو تشي جيفارا – حرب العصابات)(1)

       

في مطلع ثلاثينياته، يبدو أبو ياسين وسيمًا بشعره ولحيته السوداوين، اللذان يعكسان بياض وجهه، وقميصه وبنطاله السوداوين اللذان يعكسان حاله الميسور الذي أتاحه له عمله كمصمم ملابس في حي الميدان الدمشقي، بدخل يتجاوز الألف دولار شهريا، وهو دخل كان يمكن أن يصفه به أحد اليساريين بأنه "برجوازي صغير"، ويصف به نفسه بأن "وضعي كويس".

      

ومع كونه برجوازيا صغيرًا، فقد كانت له مشاكله مع النظام الملكي/ الجمهوري، والاشتراكي/ الليبرالي، واختار الانضمام للثورة كرها لهذا النظام، تجلّى به دوره بمجرد الدعاء عندما بدأت ثورة مصر، ثم في المظاهرات عندما انطلقت من المساجد الكبرى في دمشق، و"زبطت" وصولا إلى سوق الحميدية، مما جعله مطلوبا من فرعين أمنيين للنظام، ودفعه إلى أن "يتوارى" تجنبا للتدمير، آخذا بنصيحة جيفارا التي ربما لم يكن يعلمها، بعد، لكنه كان مدفوعا لها بالغريزتين: غريزة البقاء؛ وغريزة الثأر.

     

منذ ذلك الحين، تحولت شخصية أبو ياسين الميداني [1] من معارض سياسي ومتظاهر، إلى مغاور/ محارب عصابات/ ومقاتل، يشهد له أثر جراحة طولاني في الجانب الأيسر من بطنه وآثار شظايا اسفل صدره. اجتمع أبو ياسين مع بضعة شباب لتأسيس كتيبة "أبو عبيدة بن الجراح" نهاية عام ٢٠١١، في دمشق، مدفوعا بذات الغريزتين، اللتان تحولتا إلى قناعة داخلية واعية، وهدف إستراتيجي: هذا النظام لن "يهرّ" (يسقط باللهجة المحلية) إلا بالسلاح.

   

بالتوازي مع التوسع الجغرافي، بدأت فكرة التحالفات والجبهات بالتشكل، مرتبطة بتنافس دولي على "العصابات" التي لم تعد تكتفي بما تجنيه من غنائم وسلاح

ممتدّا من الشعب ومتقويّا بهم، ورغم قلة سلاحه وعدده أمام عدوه، أمام النظام الاجتماعي الذي يضطهده ويضطهد أقرانه؛ يحتمل المغاور أو محارب العصابات عبء تحرير شعبه كلّهم، ورفع الظلم عنهم، فيجتمع مع بقية المقاتلين في "عصابات"، سميّت "كتائب" في سوريا، متماسكة داخليا بحكم العلاقات البدائية "العصبية"، شجاعة ومحترمة للرئيس والإستراتيجية، وتعرف أرضها كما تعرف باطن كفّها، فمقاتلوها هم أبناء هذه الأرض، الذين "يسبحون وسط شعبهم كما يسبح السمك في الماء" – بالتوصيف الكلاسيكي لمنظر حروب العصابات ماو تسي تونج -؛ كانت الكتائب في سوريا، بداية، خير تمثيل لمغاوير جيفارا، عددا وعدّة، بأسلحة قليلة كانوا يصنعونها من "أنابيب الصرف الصحي".

   

ولأن المدينة "عاجزة سياسيا" كما يقول إيرنست جينر [2]، ولأن الأصول العصبية البدائية "الطبيعية" الجامعة لهذه الكتائب "بدويّة" (أي متنافية مع المدنية) بحسب ما يروي ابن خلدون، وكما رأى جيفارا بأن القاعدة الرئيسية للمغاوير هي الريف الذي يجمع هذه العلاقات؛ انتقلت الكتيبة الصغيرة نحو جنوب دمشق، الأقل مدنية والأكثر ريفية، ثم اجتمعت مع بقية الكتائب ضمن "كتائب الصحابة" في داريا الريفية، مطلع عام ٢٠١٢، التي لم تنجح في معركة الميدان حينها، فاضطرت للخروج وبدء معارك أخرى لاحقة.

     

       

كان أبو ياسين الميداني يمثل مقطعا عرضيا وصورة شديدة التصغير للحالة السورية ككلّ في تلك الفترة، فترة حرب العصابات، منذ اندلاع الثورة وصولا إلى منتصف عام ٢٠١٣. خلال تلك الفترة؛ بدأ المقاتلون المحليون، المتواجدون غالبا في الأرياف وأطراف المدن، ينتظمون ضمن مجموعات صغيرة ويعتمدون مبادئ حروب العصابات سواء بالهيكلية التي كانت شبكية بقائد كاريزمي محلي مركزي يملك السيطرة والإشراف، أو بالإستراتيجية المتبعة الساعية لإسقاط النظام، أو بالتكتيكات المعتمدة بالدرجة الأولى على آلية "اضرب واهرب"، ورصد الفخاخ، وبعض التفجيرات للمواقع والحواجز العسكرية.

    

مع الوقت، بدأت هذه "الكتائب" المحلية الصغيرة تنتظم شيئا فشيئا، فقرب أبو ياسين الميداني كان "حجي الغوطة" [3](في التسمية المنتشرة للقيادات العسكرية المحلية التي كانت ذات امتداد وقبول اجتماعي، قبل أن تكون مؤدلجة أو ذات مشروع سلطوي)، الذي كانت دوافعه للخروج مختلفة عن دوافع أبي ياسين، إذ خرج بسبب "الظلم، الذي حرمه الله على عباده وعلى نفسه"، بلغة وأفكار مختلفة ولكن بتسلسل وتاريخ (وجسد مصاب) مشابه، بدأ به متظاهرا سلميا يؤمن أجهزة اتصال للمتظاهرين في درعا وطيبة الإمام، وكاميرات تصوير، ثم شكل كتيبة صغيرة في منطقته، بدأت تكبر وتنضم شيئا فشيئا، وتوسع هجماتها جغرافيا، وتتعامل مع ما حولها من الكتائب، تقاربا أو تباعدا، أو اندماجا أو رفضا.

    

لم تكن هذه الحالة في العاصمة دمشق وحسب، فخلال تلك الفترة كانت مناطق ريفية مثل الزبداني وجسر الشغور، وعشائرية مثل درعا قد "تحررت" واستطاع بها الثوار الذين استخدموا حرب العصابات التقدم، متوسعين ومعتمدين بالدرجة الأولى على ما يحصلون عليه من سلاح وذخائر من المعارك التي ينتصرون بها بعد انسحاب قوات النظام أو هزيمتهم، من درعا إلى حلب، التي بدأ بها "التحرير" كذلك بصورة مشابهة من الريف، وبقيادة "حجي مارع" عبد القادر الصالح.

     

من "العصابات" إلى "النظامي"
"من الثابت أن حرب العصابات تؤلف أحد أطوار الحرب، فلا يستطيع هذا الطور وحده أن يؤدي إلى الظفر"

(تشي جيفارا – حرب العصابات)

       

شيئا فشيئا بدأت هذه الفصائل المسلحة الصغيرة تكبر شيئا فشيئا، فتحول "لواء الإسلام" في الغوطة إلى "جيش الإسلام"، وانضمت عدة كتائب صغيرة في أرياف حماة وحلب وإدلب معا لتوسع "حركة أحرار الشام الإسلامية" إلى "كتائب أحرار الشام"، معتمدة على عصبية تشكلت في سجن صيدنايا وشبكات قديمة ناجزة وتاريخ قتالي وعسكري، على تواضعه، مثل دافعا وحافزا للانضمام، مترافقة مع توسع جغرافي بلغ أوجه ومداه منتصف عام ٢٠١٣، حيث كانت كل الأرياف تقريبا تحت سيطرة الثوار، وفي صراع كان واضحا وسهلا: شعب ثائر يواجه سلطة غاشمة، وينتصر عليها.

      

بالتوازي مع التوسع الجغرافي، بدأت فكرة التحالفات و"الجبهات" بالتشكل، مرتبطة بتنافس دولي على "العصابات" (بلغة جيفارا) التي لم تعد تكتفي بما تجنيه من غنائم وسلاح، خصوصا بعد أن سيطرت على أسلحة ثقيلة، وتحولت بها ساحات المعارك إلى مساحات مفتوحة لا يمكن القتال بها باستخدام آليات حروب المدن، بل تتطلب مواجهات ومؤازرات وخطوط إمداد، شبيهة بمواجهات بين جيشين نظاميين، فكان أبرز هذه الجبهات، "جبهة ثوار سوريا"، و "جبهة ثوار سوريا الإسلامية" التي تطورت نحو "الجبهة الإسلامية" (نهاية ٢٠١٣)، مكونة من كبرى الفصائل الإسلامية في الساحة، في تحالف شكلي لم يستطع الاستمرار بسبب عدم الاتفاق داخليا، وتضارب التمويل خارجيا.

           

undefined

             

ربما تمثل معركة القصير (منتصف عام ٢٠١٣) التي فقد بها الثوار (رغم معركة طويلة الأمد) عقدتهم الإستراتيجية في ريف حمص، بين "عاصمة الثورة" والحدود اللبنانية، نقطة التحول الأبرز في هذا المسار؛ فلم يخسر الثوار، الذين لم يكونوا معتادين بعد على هذا النمط المفتوح من المعارك النظامية وحسب؛ بل دخلت به الطائفية المحلية والإقليمية، كخطاب سياسي وقوة عسكرية، إلى المعركة بشكل علني وبثقل واضح، بعد أن دخلت المليشيات المحلية من جانب النظام، كإستراتيجية إيرانية ممثلة بـ"قوات الدفاع الوطني"، ودخل "حزب الله" اللبناني، ذو الخبرة العسكرية الكبيرة كـ"قوات خاصة" استطاعت إثبات نجاحها بالسيطرة على القصير، وتحول الصراع المحلي السياسي إلى صراع إقليمي جيوسياسي، تحول إلى عالمي، مع دخول الفصائل الكردية وتنظيم الدولة (الذي يخيف الغرب أكثر من النظام) إلى ساحة المعركة.

     

منذ تلك اللحظة، بدأ الثوار يحاولون التكيف مع النمط الجديد للمعارك، ولكن سياسيا في مرحلة أبرز ملامحها الدعم الخارجي للفصائل، وخطابيا بالتوجه أكثر نحو الأدلجة والجهادية (بعد تحول الدين، الذي بدأ كملجأ وملاذ روحي، إلى أيديولوجيا شمولية، حلّت محلّ المسار الثوري العفوي)، لكنها لم تبدأ عسكريا، حتى تلك اللحظة، معبئة الضلع الأول من الفشل العسكري: العجز عن التكيف، مترافقا مع العجز عن التعلم، مترافقا مع العجز عن التوقع، ضمن مساحة أكبر من فشل الحلفاء في حربهم بـ"الوكالة"، [4] فبدأ التراجع منذ تلك اللحظة، قبل أن تبدأ محاولات التململ والتحرك.

     

من "النظامي" إلى "اللامنتظم"
استطاعت الفصائل المحلية المكونة من ثوار حلب في المدينة أن يحافظوا على المدينة باستخدام تقنيات حرب المدن داخلها، والحرب النظامية خارجها
استطاعت الفصائل المحلية المكونة من ثوار حلب في المدينة أن يحافظوا على المدينة باستخدام تقنيات حرب المدن داخلها، والحرب النظامية خارجها
     
بدأ أن "الحالة الراهنة" [status quo]، رغم كل الدينامية العالية جغرافيا وسياسيا وعسكريا، لا يمكن أن تستمر، فانفجرت مجددا مع محاولة تكيف الثوار داخليا ودمجهم ما بين "العصابات" و"النظامي" في نمط الحرب الجديد: اللامنتظم، الذي يحاول الدمج بين كلا النمطين، فتحولت الجبهات الأيديولوجية والسياسية إلى "غرف عمليات"، كان أبرزها: "غرفة عمليات جيش الفتح"، و"غرفة عمليات فتح حلب"، التي استطاعت أن تحقق نتائج ملموسة، بالتوافق مع النمطين.

ففي الحالة الأولى (جيش الفتح)؛ استدخل الثوار العناصر الاجتماعية التي تمثل الحاضنة والملجأ بالاعتماد على ثوار مدينة إدلب، الريفية المهمشة، وتوجهوا إليها باستخدام آليات ومجنزرات ثقيلة، وكأن ما جرى هو أن "المغاوير" أصبحوا يجيدون قيادة الدبابات، فاستطاعوا السيطرة على إدلب خلال مدة قليلة، وكسر قاعدتها الاجتماعية [5] وتحويلها إلى مركز اجتماعي وعسكري ثقيل.

       

أما في الحالة الثانية (غرفة عمليات فتح حلب)، فقد استطاعت الفصائل المحلية المكونة من ثوار حلب في المدينة أن يحافظوا على المدينة باستخدام تقنيات حرب المدن داخلها، والحرب النظامية خارجها، وبدا أن الثوار قادرون على تحقيق نتائج ملموسة وكسر أنماط وحالات راهنة عندما تمكن «جيش الفتح» من فك حصار حلب، إلا أن عقد الفصائلية (نفسية وفكرية الجوهر وعسكرية وسياسية الخسائر) لم تضمن استمرار هذه الحالة بعد أن اختلفت مع «فتح حلب»، مع اختلافات في التمويل والارتباطات الخارجية والأيديولوجيات، فلم تُحاصر حلب وحسب؛ بل خرجت من ساحة الصراع كلّه.

       

هذه المرحلة مما يمكن تسميته بـ"التهجين"، بدت بأكثر ما تبدو بتحوّل وتكيّف "جبهة النصرة"، المعتمدة على اللامركزية وحروب العصابات إلى كيان أكثر تماسكا ووضوحا وثباتا أيديولوجيا هو "جبهة فتح الشام"، التي أصبحت فصيلا محليّا ببنية واضحة، لا مجرّد خلايا متوزعة هنا وهناك بأيديولوجيات متقاربة وقيادة مركزية، بل أصبح ذا هيكلية وبنية واضحة متمركزة في إدلب. لكن، وباللمسة السورية المعتادة، لم يبق شيء على ما هو عليه.

        

من "اللامنتظم" إلى "اللامتناظر"
مع خسارة كل المدن التي كان الثوار يسيطرون عليها، بدأوا باستخدام أنماط من الحرب اللامتناظرة، مستدخلين المفخخات، ومحاولات استخدام حروب المعلومات
مع خسارة كل المدن التي كان الثوار يسيطرون عليها، بدأوا باستخدام أنماط من الحرب اللامتناظرة، مستدخلين المفخخات، ومحاولات استخدام حروب المعلومات
         
نهاية عام ٢٠١٥؛ مثل التدخل الروسي الضارب قوة عسكرية تركت أثرها بشكل مباشر، وقلبت الساحة السياسية والعسكرية كليّا، لكونها أكثر من يجيد استخدام "الحرب الهجينة" كعقيدة قتالية؛ مستدخلة الحرب النظامية باستخدام الطائرات والقوات الخاصة والدبابات الحديثة، في الحرب غير النظامية المتمثلة بحروب الحصار [6] والتجويع والإبادة، مترافقة مع بيئة حرب سياسية ومعلوماتية تمكنت من خلالها من استغلال ضعف وهشاشة البعد السياسي الإقليمي والعالمي، متمثلا بالتخلي الأمريكي عن الساحة، والسيطرة على الميادين جميعا في لحظة واحدة.

      

بالترافق مع ذلك؛ ومع خسارة كل المدن التي كان الثوار يسيطرون عليها، ونقاط واسعة في الأرياف والبلدات، إما بسياسات حرب الإبادة التي اضطرتهم للخروج، أو بعقد صفقات وهدن وتسويات أوضاع، وتمركزهم في نقاط محددة جغرافية محددة؛ بدأ الثوار يستخدمون أنماطا من الحرب اللامتناظرة إضافة لكل ما سبقها من أنماط؛ مستدخلين المفخخات بشكل كبير، وظهور للطائرات بدون طيار، ومحاولات استخدام حروب المعلومات، إضافة لدخول حرب الأنفاق [7] في المناطق المحيطة بالمدن بشكل واسع وكبير.

      

وإن بدا الثوار قادرين على التكيّف خلال مراحل وأطوار وأنماط مختلفة من الحرب، هيكليا وبنائيا، إلا أن الحوادث والعلاقات والخلافات الداخلية والتحالفات والعداوات الخارجية تعكس الفشل في الأمرين الآخرين: الفشل بالتعلم، والفشل بالتوقع؛ إذ أن التاريخ الذي أخطأوا به بداية لا يكرر نفسه مرة واحدة كمأساة، بل مرة ثانية وثالثة كملهاة (كما يقول كارل ماركس)، كما حصل في تكرار الأخطاء الفصائلية التي أسقطت حلب في حماة، أو الأخطاء التي أدت لانسحاب الفصائل من وادي بردى في القابون، وخلال فترة قريبة، إضافة للعجز عن التوقع الراهن، لا بسبب غياب الأفق أو الاستشراف، ولكن بسبب غياب قيادة ورؤية إستراتيجية واضحة ومحددة، تقتلها التكتيكيات الراهنة واليومية واللحظية، التي تقضمهم قضما مستنزفا ومتعبا وطويل الأمد، للأرواح قبل الأجساد.

________________________________________________________

         

(1): أبو ياسين الميداني: صورة مقاتل

(2): Ernest Gellner, Muslim Society

(3): الحجي: صورة مقاتل

(4): The Moral Hazard of Proxy Warfare

(5): Assad’s Broken Case

(6): How Modern Siege Warfare Is Changing Counterinsurgency?

(7): Preparing for Warfares Subterranean Future

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.