شعار قسم مدونات

النساء وحافلات الرباط.. واقع أسود وحلم وردي

مدونات - اليابان

وأنا أعيش، بكثير من الحسرة والتألم، فصولا مؤلمة ومُملّة، من قبيل ما عاش گودو ذات انتظار، في إطار "تراجيديا" المعاناة اليومية لسكان الرباط مع وسائل النقل أضحكَني -وبعضُ الضّحكِ كالبكاءِ وأمَرُّ- تصريحٌ "ورديّ" لعمدة العاصمة. فوفق ما صرّح به السّيد محمد صديقي منذ فترة قصير فإنه يمكن استلهام تجربة طوكيو، التي خصّت نساءَها بعربات في "المترو"، ضمن إجراءات أخرى، لمحاربة العنف ضد الجنس اللطيف..

 

إلى هنا كلّ شيء جميل ولا يسع المرءَ إلا أن يحيّي عليه السيدَ العمدة، ومعه الأجهزة والمؤسسات التي فكّرت في هذا الحلّ "الحالم" للحد من التحرش ضد النساء. لكنْ، بالعودة إلى "الواقع"، ليسمحْ لي السيد العمدة بأن أذكّره ببعض تجليات ما هو كائنٌ في انتظار تحقّق الممكن، إن كُتب له أن يتحقق يوماً.. أمس، مثلا، انتظرتُ حافلة تُقلّني من قلب الرباط حيث أعمل إلى "مدينة" تْمارة حيث أسكن. مرّت بالضبط أربعٌ وخمسون دقيقة قبل أن "تُشرّف"، أخيرا، تلك الحافلة. ساعةٌ كاملة من الانتظار في مركز العاصمة يا السّي صديقي، فكم تتوقع أن ينتظر الناس في أماكنَ أخرى من مدن وبلدات المغرب، العميق وغير العميق؟!

 

ساعة انتظار طويل ومُحبِط تجمّعتْ خلالها حشودٌ غفيرة من الناس، بينهم نساء طبعاً، كثير من النساء، بين طالبات وعاملات، وربما، موظفات.. صحيحٌ أنني لم ألحظ تحرّشاً بإحداهنّ، بالمفهوم اللفظي أو الجسدي للكلمة، لكنّ أولَ "تحرّش" في نظري كان أنّ هؤلاء النسوة "اللطيفات" كنّ مُجبَرات، مثلنا نحن "الخشِنين"، على الوقوف طيلةَ ساعة، وربما أكثر في أوقات أخرى. فليست هناك مقاعدُ في "المحطة" البئيسة غيرُ عارضةٍ حديدية لا يمكن أن تتّسعَ، في كل الأحوال، لأزيدَ من خمسٍ أو ستّ منهنّ. عدا ذلك، ليس أمامهنّ، إن هنّ شئن أن يُرِحن أجسادهنّ من تعب يومهنّ سوى حائطٍ إسمنتيّ باردٍ بكيفية رهيبة في هذا الشتاء، ممتدّ على جنبات موقف السيارات القريب. أليس "تحرّشاً"، السيد العمدة، عدمُ توفير مقاعدَ كافيةٍ للركاب، أو للرّاكبات على الأقل، في محطة حقيقية تحترم كرامة الإنسان في أدنى شروطها؟ أليس تحرّشاً، بل عنفاً حتى، أن تضطرّ عجوز مُنهَكة بأثقال الزّمن والأمراض والهموم إلى التسمّر طيلة هذه المدة أو أكثرَ أو إلقاء جسدها فوق حُويط إسمنتيّ بارد في انتظار حافلة "بشِعة" قد تجد فيها، لاحقاً، مقعدا وقد تُواصل رحلتها على متنها واقفةً، تتقاذف جسدَها المتعبَ تحرّشاتٌ "ملموسة" هذه المرّة طيلة مسافة الرّحلة؟!

 

لا أدري لماذا يتوقف سائقو هذه الحافلات ويواصلون إركاب المزيد من الناس رغم أنهم يعرفون أنه لم يعد هناك ولو شبرٌ واحد شاغر؟ تزاحُمٌ وتدافُع واحتكاكات، معظمها بالجنس اللطيف

لا علينا، لنصعدْ إلى الحافلة الآن؛ والصّعود إلى إحدى حافلات مدننا المضعضعة "مُجازَفة" حقيقية محفوفة بكلّ التحرّشات الممكنة، خصوصا بالنسبة إلى النساء. فإضافة إلى مَن يتعمّدون خلقَ دوافعَ لـ "احتكاكات" غير بريئة أبداً، بالجنس اللطيف في المقام الأول، بدوافعَ معروفة، هناك دائما ثلاثة أشخاص أو أربعة، مثيرون للرّيبة والاحتياط، يكونون أولَ مَن يصعدون، لكنهم لا "يتسابقون"، مثلنا نحن السّذج المُتعَبين، على الكراسي الشّاغرة؛ بل يتّخذون أماكنهم، دوماً، قرب الباب، ولو صعدوا في محطة الانطلاق حيث كل المقاعد لا تزال شاغرة! فهؤلاء "الأوغاد" ليسوا، في الحقيقة، سوى لصوص يتربّصون بجيوب ضحايا محتمَلين بين الرّكاب ومحفظات نقودهم وهواتفهم، وخصوصاً من الجنس اللطيف. فترى كل واحد منهم ينصرف لأداء مهمّة بعينها في ما يشبه "عملا" روتينياً اعتاد على تأديته منذ مدة..

 

وقد صرنا في جوف الحافلة "الصّدئة" التي هي أليقُ بمتحَف منه بطرقات المملكة، ولأننا كنّا في محطة الانطلاق، فقد وجدتُ، لحُسن الحظ، كرسيا شاغرا. حجزتُ المقعد لنفسي دون تردد، بأن وضعتُ فوقه محفظتي الثقيلة ريثما أحصل على تذكرتي. وما إن عدتُ إلى مقعدي حتى شرع رجل كهل كان يقف على بعد متر قبالتي -خلتُه في البداية راكباً عاديا كأيها الناس- في سرد تفاصيل مأساته على الفور:

 
"كأنّ هذا ما كان ينقصني لكي يكتمل بؤسُ المشهد في هذا اليوم اللعين!" قلتُ لي. انتشلني صوته من مونولوغي الشرّير: "الإخوانْ، السلام عليكم، اعذروني لأنني أقصدكم، والمقصود الله، أتوجّه إلى مَن مالُه من مال الله.. أنا، يا خّوتي، فْعمري سْتّين عامْ، مْريض وعْندي الفْتقْ، وْهاد الفتقْ أثّرْ ليَ عْلى صحّتي وْحْتّى عْلى الجهازْ التّناسلي، حاشاكم. إيه أخّوتي، الله لا يخطّيكُم صحيحتكومْ، ما بقاتْ عْندي حياةْ، ما بْقاتْ عْندي حياة جنسية.. الأطبّا خرّجو لِيْ حزامْ طِبّي وْلكنْ ما عْنديشّ الفلوسْ باش نبدّلو لأنّ ثمنُو، تقريبا، ألف دْرهم.. ها نتُومو شوفو بْعينيكُم"..

 

قالها بنبرة باكية لكنْ بدَت لي، لسبب غامض، ماكرةً ومُخادِعة، ثمّ عرّى جزءا من حِجره وهو يُظهر لنا حزاماً بإبزيم (عُروة) معدني أبيضَ عريضٍ وقد شدّه بقوة على بطنه المنتفخة حتى كادت تنفجر. أشاحت فتاة كانت تقف بمحاذاته بوجهها واتعدتْ عنه خطوتين وأدارت له ظهرها، مُتمتمةً بكلام غير مسموع، قَدّرتُ ما قد يكون.. وفي جلستها تململتْ سيدة في حدود الأربعين وتظاهرتْ بتفقّد شيء في قفة كانت تضعها عند قدميها، كي تتفادى النظر صوب حِجْر الرجل.. أليس هذا تحرّشاً ضد النساء يا عمدةَ العاصمة؟!

 

في "كوكب" اليابان، كما يحلو للبعض وصف هذا البلد، لا أظنّ -بالنظر إلى معطيات موضوعية عن ثقافة أبنائه وعاداتهم وتنشئتهم- أن يكون هناك تحرّش بالنساء أصلا

الحافلة البطيئة المكتظة الآن في محطةٍ قبالة مستشفى ابن سينا في السويسي. يلتحق بالخلق، الكثيرِ أصلا في جوف الدابّة الحديدية المتهادية، خلق كثير. لا أدري لماذا يتوقف سائقو هذه الحافلات الغبية ويواصلون إركاب المزيد من الناس رغم أنهم يعرفون أنه لم يعد هناك ولو شبرٌ واحد شاغر؟ تزاحُمٌ وتدافُع واحتكاكات، معظمها بالجنس اللطيف، وتبادُلٌ لشتائمَ رخيصةٍ على مسمع الجميع. وطبعاً، ستكون بعض الجيوب قد "نُظّفتْ" ممّا فيها من قبَل تلك العصابة المتربّص أفرادها، بهيئاتهم الغريبة وسحناتهم العابسة وقبّعاتهم ونظاراتهم الشمسية المضحكة، قرب باب الصعود. اكتملتْ سرياليةُ المشهد الآن: صارت الناقلة أبطأَ من سلحفاة معمّرة وهي تلهث صعودا نحو تْمارة. في جوفها تكدّست الأجساد وتلاصقت حدَّ كسر حاجز أي حرمة أو كرامة. تذكّرتُ تشبيهَ المغاربة بعضَهم البعض في الزّحام بالسّردين فارتسمت على شفتَيّ ابتسامةٌ شامتة. ضجيج وفوضى واكتظاظ بلغ مداه، كلماتٌ نابية ودوسٌ على أقدام و"كشطُ" جيوب. ألا يكفي هذا تحرّشاً يا عمدةَ العاصمة؟!

 

جميلٌ، السّيد العمدة، أن نفكر في استلهام تحارب الآخرين، لكنّ الأجمل أن نكون "واقعيين" ولو قليلا ولا نذهب أبعدَ، نحو نماذجَ سبقتنا بسنوات ضوئية.. ففي طوكيو، التي قلتَ إنّك تود السّير على نهجها في أفق تخصيص نقل "ورديّ" للجنس اللطيف، تسير أمورٌ كثيرة بكيفية مخالفة لواقع الحال عندنا، مع الأسف.. ففي "كوكب" اليابان، كما يحلو للبعض وصف هذا البلد، لا أظنّ -بالنظر إلى معطيات موضوعية عن ثقافة أبنائه وعاداتهم وتنشئتهم- أن يكون هناك تحرّش بالنساء أصلا.

 

في اليابان إذا نسيتَ، مثلا، محفظةَ نقودك فوق مقعدك في محطةِ حافلات وتذكّرتَها لاحقاً وعدت للبحث عنها، ستجدها حيث كانت بالضّبط.. وارتباطا بالحافلات والطرُق، شاهدتُ، مؤخرا، شريطاً يُظهر طريقة عبور الرّاجلين الطريقَ في اليابان فشعرتُ بالضّيم، سيدي العمدة! نعم، بالضّيم، فالراجلون منهم وهو يعبُر -من ممر الرّاجلين طبعا وليس حيثما اتفق كما هو الحال "عْند شي ناسْ"- يُحيّون سائقي العربات المتوقفة، في حركة تلقائية، مصحوبة بابتسامة حييّة، يتضح جلياً أنها مُتجذّرة في ثقافة ووجدان هذا الشعب العجيب، راسمين لوحة حضارية لا أظننا بعدُ مؤهَّلين حتى للاقتراب منها. أمّا عندنا، فإن "التحية" الوحيدة التي تجدنا مُستعدّين دوماً لتبادُلها مع بعضنا البعض ونحن على الطريق، راكبين أو راجلين، هي "سيـرْ تـقـّ (…) اللهْ يْلعنْ الـ (…) تاعْ بوكْ يا وْلـد (…) يا الحْمار!"..

 

هل بدأتَ تُفكّر، السّيد العمدة، في اسم بلد آخر يمكن أن تستلهم منه تجربةً "وردية" لتخفيف حدّة التحرّش بنساء العاصمة غير كوكب اليابان؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.