في رحلته الفكرية أيضا، وفي سعيه إلى أن يصير موسوعيا، عالما، متخصصا، مثقفا، ملما، أو حتى إنسانا غير تافه، يمر الفرد بمحطات كثيرة مدادها التفاعل من جديد، فينطلق مقتحما العديد من المدارس الفكرية، مفتشا في العديد من التخصصات العلمية، متلقيا الكثير من الأفكار، ملتهما الكثير من المراجع، مشافها الكثير من المعلمين، مارا على العديد من الإشكالات، أو على الأقل في كل هذا مصححا لمجموعة من الإعوجاجات -كما يراها-.
يمر قطار الحياة بالإنسان على محطات فكرية ومعرفية كثيرة، يقف عند بعضها لسنوات ويمر على الأخرى في لحظات، تخدمه بعضها في مساره، وتساهم بعضها في تعثره أو حتى انهياره |
خلال هذه الرحلة التي تختلف دوافعها من الدافع المعرفي الصرف إلى الدافع الإجتماعي ثم الدافع النفسي أو حتى إلى الدافع الروحي من جديد، تطرح الرياح المصاحبة للرحلة من آن لآخر سؤال المنهج العلمي الذي يعد الزاد الأهم في الرحلة بعد زاد الإرادة. فمن وجوده إلى عدمه، ومن ضعفه إلى قوته، ومن متانته ورصانته إلى هشاشته وانهياره، تنجح الرحلات أو تنحرف، تتحقق المقاصد أو تتغير، تتراكم الأفكار أو تندثر، تتشكل الرؤى أو تهدم وتتناقض. فحضور المنهج العلمي الرصين القوي المتين زاد طالبي المعرفة. وغيابه زاد طالبي الترف، بقصد أو بغير قصد، لأن القصد في هكذا حالات لا يعدو أن يكون سطحيا أو أن لا يكون فيملؤه الفراغ والترف.أما ضعفه فهو الأخطر على الإطلاق، لأنه يغدو ملاذا لمستنقع حامل لأفكار متناقضة وحمال لقناعات ظرفية، تختلف على الفرد فيه المتغيرات من الثوابت، المبادئ من المستوردات، القطعيات من الظنيات، فيضيع الفكر ويضيع الفرد في الترهات والهرطقات.
خلال هذه الرحلة أيضا، يمر قطار الحياة بالإنسان على محطات فكرية ومعرفية كثيرة، يقف عند بعضها لسنوات ويمر على الأخرى في لحظات، تخدمه بعضها في مساره – إن حضر المنهج العلمي القوي-، وتساهم بعضها في تعثره أو حتى انهياره -إن غاب المنهج العلمي أو ضعف-، لكن الأصعب في كل ذلك أن تكون المحطة شخصا -لذاته- بدل مدرسة، أو ذهنيات بدل علوم، أو جهلا بدل معرفة، فيسقط الفرد في العجز الفكري، أو الجهل المعرفي، أو الفكر الولائي المشخصن في أفضل الحالات.
هي اختلافات يصعب في النهاية تعييرها أو قياسها أو حتى فهمها، لأنها من العقل والروح أي من بنية بني الإنسان، فبعضهم جعل من الخوض في هكذا عوالم غاية وجوده، فجسد حياته كلها محطات متشابكة بين العقل والروح، و"حجة الإسلام" أبو حامد الغزالي خير مثال على ذلك. بعضهم الآخر شد الرحال إلى أعماق الذوات بقصد فهم سر الوجود في شكل هكذا حيوات رافعين شعار " سنة التغافل" في كل ما يرتبط بالعقل والفكر معتبرين ذلك المصب لا المنبع، والنتيجة لا الطريقة، والفرع لا الأصل، وبعض مدارس التصوف وطرقه خير مثال على ذلك. الكثيرون أيضا أسسوا ل"تزاوج" ما بين مدرسة العقل ومدرسة الروح، ما بين مدرسة الفكر ومدرسة العبادة، ما بين مدرسة الحركة ومدرسة الزهد، فنجح بعضهم في ذلك لما يملكون من منهج رصين، وانحرف الآخرون عن المقصد المسطر لما يفقدون من رؤية متكاملة، والكثير من الحركات الإسلامية في العالم اليوم خير مثال على ذلك.
يعد قطار الحياة في النهاية أسرع قطار. السائق فيه إنسان يبحث عن "المعرفة" أو "الحقيقة" أو "اليقين" أو "الوصل" ولا مشاحة في الإصطلاح في هكذا رحلات. سكته تفرض الرصانة والثباث عند المحددات وإلا فالإنحراف نتيجته الموت والإنتحار. مقصوراته حبلى بالأفكار والأسرار، أو على العكس خاوية من كل ذلك، المهم فيها أن خواءها من امتلائها لا يحرف المسار بقدر ما ينقص من زينة القطار ومطلوبيته.
محطات القطار كثيرة ومتعددة ومدة وقوفه فيها تختلف باختلاف الرحلة والوجهة، الأهم في كل ذلك أن السكة والوجهة مقاصد وجب إدراكها منذ البداية، وإلا صارت المقاصد مطالب، فما تكون النتيجة آنذاك إلا أن تغلق على الإنسان المقصورات أو أن ينسى ذاته داخل إحدى المحطات، فيضيع الفكر والروح معا في عالم تغيب عنه الرحلات! هذا ويبقى الله عز وجل هو الموفق والهادي لطريق الخير والرحمات!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.