شعار قسم مدونات

جواز مؤقت

مدونات - مخيم غزة جرش

تلتصق بهم النكبة غير آبهة بعذاباتهم، حتى صارت وجعا يوميا، يتلقمونها أكثر من طحن لقيمات الخبز، التي لا يجدون، فيما عبارة "أبناء قطاع غزة"، سببت لهم "فوبيا"، وصلت حد التهمة أو الشتيمة. هموم ما يزيد عن (50) ألفاً من أبناء مخيم غزة، في شمال الأردن لا تنتهي، فأي تقرير عن وجعهم سيظلمهم، لأنه لن يتمكن من إيصال آهات آلامهم، والتي يختزلها شيخ سبعيني، قائلا: "أعيش فصول النكبة كل يوم، حيث لا إقامة ولا عمل ولا تعليم ولا سفر ولا تملك".
 
أصحاب الجوزات المؤقتة، يعرفهم الأردنيين جيدا، فإن تصادف وجودك بمستشفى جرش الحكومي، إلى جانب شخص يتململ، فتراه تارة تراه الدور وتارة تجده آخره، يقدم خطوة ويتراجع اثنتين، صحيح أنه يتحدث نفس لغتك، ويلبس هنداما كهندامك، وتعلوا جبهته ذات السمرة التي ترتسم على جبينه جراء الكد والتعب، ولكنه لا يستطيع أن يدفع تكاليف علاجه، فيتحامل على أوجاعه ويكتمها بالمسكنات.
 
فالنظام الطبي في الأردن يعامل أبناء مخيم غزة كأجانب محرومون من التأمين الصحي، ما يترتب عليهم تكاليف باهظة للعلاج، خصوصا أن أطباء وكالة الغوث أطباء عام وليس بينهم أطباء اختصاص، ناهيك أن المركز الصحي الوحيد في المخيم لا يلبي الاحتياجات.

 

في مخيم غزة يحبون الحياة، يبحثون عن الوطن في كل تفاصيل حياتهم اليومية، هم يعانون حد القهر، ولكنهم صامدون لأن الأمر يتعلق بوطن

على وقع طقطقة ألواح الزينكو، وصكصكة الأسنان، وجدناه في حوش منزله ينتظرنا، وقد أشعل نارا تلفح الوجوه، لا تقي بردا ولا تدفأ جسدا، لكنه ما يزال صامدا يتنفس عبق العودة وأنسام التحرير المنتظرة. الحاج "أبو منديل" ما يزال يرفض البناء، بالرغم من مضي (70 عاما) على تهجيره من بلدته بئر السبع في صحراء فلسطين، يعيش على أمل عودة لا يغيب عنه.

 

ما يزيد عن الأربع كيلومترات قطعناها، مشيا على الأٌقدام لوعورة الطريق إلى منزله وعدم توفر وسيلة للنقل، حتى نسمع من الحاج مأساته مع قانون التمليك، بعد أن أطلق ضحكة، يبدو أن ما وراءها يشي بالكثير. قال: "أنا اشتريت أرضي مرتين"، نظرت إليه مشدوهة دون أن أنبس ببنت شفة، فأكد كلامه، "آه والله يا بنتي شريت هالأرض مرتين، لأنه القانون في الأردن بحرمنا إحنا أبناء غزة إنه نتملك، عشان هيك لازم أسجلها باسم حد معه رقم وطني، بس اللي سجلت هالأربع دونمات باسمه ضحك علي وطلع نصاب، فرجعت دفعتله حق الأرض واشتريتها مرة ثانية".

 

ومع وقوفنا على أكثر من حالة داخل مخيم غزة وخارجه، اتضح لي أن أبناء غزة بالأردن، لا يتزوجون من بعضهم، يدفنون قصص حبهم باكرا قبل أن تكبر، حتى يتمكن الواحد منهم من تسجيل بيته أو أرضه أو سيارته، فالقانون في الأردن لا يمكن الغزي من التملك، فيتحايل على ذلك بالبحث عن امرأة تمتلك رقماً وطنياً ليرتبط بها وليدشن معها زواجا "كاثوليكيا".

 

أطفال يلعبون بمخيم غزة (رويترز)
أطفال يلعبون بمخيم غزة (رويترز)

 

ومن سخريات القدر في المخيم، أن حالات الطلاق جد نادرة، خصوصا من تزوج بفتاة تمتلك رقما وطنيا، حتى لا تذهب أملاكه مع الريح. حقوق كفلتها كل المواثيق الدولية والقوانين الإنسانية، (الصحة، والتعليم، والتملك)، ولكنها محرمة على أبناء قطاع غزة في الأردن، فالمشرع الأردني يراها بطرا في حقهم، فيما هم لا يريدون شيئا سوى العيش بكرامة.

 

العم أبو حمادة فهو نموذج من نماذج الثبات الفلسطيني الغزّي على الأراضي الأردنية، لم تغيره سنوات النزوح لم تغير لكنته ولا أدق التفاصيل في لهجته، آثر العيش تحت سقف الزينكو، أتعلمون لماذا ؟؟ "انا مابنيتش في المخيم لأرجع ابني ببلادي" كلمات لامست قلب كل من حضر وسمع.. يروي حكايته وبعد كل موقف ومشهد واستذكار للحال يردد "الحمد لله"، هي نعمة الرضا.. عن أي رضا يا عّم؟ عن بيته الذي تعدى خط الإمكانيات والضرورات! عن مرض يلازمه منذ نعومة أظفاره! لا أنسى حين قال لي "الكحة بس تقربط بيا بتقتلني" كلمات منها ما عرفت معناها ومنها ما لم أفهمه، لكنها نقشت بداخلي، أما حين نطقت باسم القدس أمامه رد والغضب في عينيه "فشروا يدنسوها هاي إلنا مسرى الطاهر محمد" أبكتني كلماتك يا عم وَيَا لحال القدس .

 

بيئته المتواضعة جدا ، وصوت دجاج وبط وحمام يغازل صوته مسمع كل من يكون في حضرة العم أبو حمادة، ساعات قضيتها لا مللت ولا كللت وأنا أنصت جيدا لكل ما خرج من قلبه على لسانه. في مخيم غزة يحبون الحياة، يبحثون عن الوطن في كل تفاصيل حياتهم اليومية، هم يعانون حد القهر، ولكنهم صامدون لأن الأمر يتعلق بوطن.

 

لذا أقول للعالم تمسكوا بشواهد القضية تمسكوا بهم فهم من يبقوا روح القضية مشتعلةً داخلكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.