شعار قسم مدونات

الإسلام الناجح.. الإخلاص والصدق لا يكفيان لوحدهما!

blogs العرب قديما
 تختزل هذه المقولة التي قالها رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان يوما كل مآسينا التي نعيشها، وأربكان هو قائد ﺣﺰﺏ ﺍﻟﺮﻓﺎﻩ ﻭﺭئيس ﻭﺯﺭﺍﺀ ﺗﺮﻛﻴﺎ -في ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ الممتدة ﺑﻴﻦ 1996و1997- الذي ﻋﺮﻑ ﺑﺘﻮﺟﻬﺎﺗﻪ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ إلى جانب حنكته السياسية، ويعد هو حزبه الحاكم -الذي سار على نهجه اليوم ممثلا بأردوغان ورفاقه- من أنجح النماذج للإسلام في العالم، الإسلام الناجح الذي جمع بين الدين والسياسة، الإسلام المعتدل وليس المنفر الذي يستوعب الجميع ولا يقصي أو يلغي أحدا، والذي يعترف بالعولمة وبأن هناك قوى عالمية من جهة وتيارات داخلية وحواضن اجتماعية لها تأثيرها من جهة أخرى، وأنه يجب كسبها والاعتراف بها وإن لم تكن مسلمة شئنا أم بينا، وبذلك يعد المثال الوحيد الناجح عن الإسلام في العالم الذي يهتم بالسياسة ويعرف الكثير عن درء المفاسد وجلب المصالح ويطبقها ويعلم جيدا من أين تؤكل الكتف.
وخطؤنا الأكبر -نحن كعرب- أننا اكتشفنا صحّة مقولة أربكان وعِظَم أهميتها مؤخرا وذلك بعد أن كنا نظن -لفرط جهلنا- أن السياسة في الإسلام أمر لا أهمية له؛ لأنه بامكاننا الاستغناء عنه، فكان أن خسرنا الكثير بسبب ذلك الاعتقاد الخاطئ والفهم القاصر.
 
التجربة الأربكانية بداية والأردوغانية اليوم هي نموذج يستحق أن يحتذى من كل مسلمي العالم، فهو نموذج ملتزم دينيا وضليع في الوقت نفسه في أمور السياسة وهذا ما لم نره في التجارب المسكينة التي رأيناها في عدة بلدان عربية بعد الربيع العربي خصوصا، والتي كانت تظنّ أن إخلاصها ونبلَ قضاياها سيكفيها لتدوم، لكنها لم تكن تعلم أن الإخلاص وحده لا يكفي إلا إذا اقترن بالدهاء، فالحُكم خصوصا والحياة عموما تحتاج إلى الدهاء والسياسة لكي يتمكن المرء من أن يعيشها وينجح فيها، فنحن لسنا في عالم مثالي ولسنا في مدن فاضلة كي نكتفي بصدقنا وقيمنا.
 
بإجراء مقارنة بين الأتراك والعرب؛ نجد أن العرب معذورون كشعوب على جهلهم السياسي، فهم لم يغيّبوا السياسةَ عن حياتهم قاصدين بل كان هناك تغييب ممنهج من الحكومات للسياسة في حياة العامة

ومن أجمل الأدلة على أن الإخلاص والصدق لا يكفيان لوحدهما قول الدكتور ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﺭﺣﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ في ﻛﺘﺎبه "ﺣﻮﺍﺭ ﻣﻊ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪ": ﺇﺫﺍ ﻧﺰﻝ ﻣﺆﻣﻦ ﻭﻛﺎﻓﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ.. ﻓﻼ ﻳﻨﺠﻮ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺗﻌﻠﻢ ﺍﻟﺴﺒﺎﺣﺔ .. ﻓﺎﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﺤﺎبي ﺍﻟﺠﻬﻼﺀ .. ﻓﺎﻟﻤﺴﻠﻢ ﺍﻟﺠﺎﻫﻞ ﺳﻴﻐﺮﻕ ﻭﺍﻟﻜﺎﻓﺮ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻢ ﺳﻴﻨﺠﻮ. ولو كان الإخلاص والصدق يكفيان لوحدهما لكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من اعتمد عليهما وأهمل ما عداهما وهو النبي المرسل المؤيد بالآيات والمعجزات، وهو الذي تدرّج في دعوته وعمل بسياسة وحكمة ابتداء من مواقفه المدروسة والذكية أثناء دعوته السرية واعتماده على الكتمان الذي هو جوهر السياسة ولبّها، مرورا بمواقفه الذكية واستشارته لأصحابه والأخذ بالشدة أحيانا والحلم أحيانا أخرى حسب مايستدعي الموقف وكسب قلوب المشركين وودهم حتى بعد أن ضعفت شوكتهم.

 
ومن أجمل الأمثلة على ذلك موقفه مع أبي سفيان يوم فتح مكة وعبارته الشهيرة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وذلك لكون أبي سفيان من أكابر القوم، وكان الهدف منها إعلاء شأنه بين قومه وعدم تحقيره بالرغم من الخلاف آنذاك معه، ولأنه ليس من السياسة أن تهين كبير قوم ولو كنت أقوى منه، وذلك ما ترك أثرا كبيرا في نفوس الناس فيما بعد. وليست هذه الأمثلة فقط بل هناك أمثلة كثيرة أخرى على عدم تغييب النبي صلى الله عليه وسلم لدور السياسة وإعمال العقل في الحياة والحكم معا، وليس عصر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فقط؛ بل كل العصور التي تلته والتي كانت رقعة الإسلام فيها واسعة، وكان الفضل في ذلك الاتساع يُعزى إلى حنكة المسلمين وسياستهم بالإضافة إلى الالتزام بدينهم آنذاك بالتأكيد.
  
وبإجراء مقارنة بين الأتراك والعرب؛ نجد أن العرب معذورون كشعوب على جهلهم السياسي، فهم لم يغيّبوا السياسةَ عن حياتهم قاصدين؛ بل كان هناك تغييب ممنهج من الحكومات للسياسة في حياة العامة وذلك عن طريق اشغالهم بالرغيف وإيهامهم بأن ﺍﻟﺪﻳﻦ والسياسة لايجتمعان، فالدين ﻏﺎﻳﺘﻪ ﺍﻵﺧﺮﺓ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻏﺎﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳُﺘﺮﻙ ﺍﻟﺪّﻳﻦ ﻷﻫﻠﻪ ﻭﺗﺘﺮﻙ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻷﻫﻠﻬﺎ، ذلك ليس صحيحا طبعا، وما كانت الغاية منه إلا تجهيل الناس وحجبهم عما يدور حولهم، فليس هناك رجال للدين ورجال للسياسة؛ بل ينبغي على الجميع أن يتبحروا في دينهم وسياستهم في الآن ذاته.
 
ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﻮﻥ من العرب فهم يعتبرون ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪِّﻳﻦ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺗﻀﺎﺩ ﻭﺗﺼﺎﺩﻡ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺷﻲﺀ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺧﺼﻢ ﻟﻪ ﻭﺃﻧﻬﻤﺎ ﻻ ﻳﻠﺘﻘﻴﺎﻥ، وهذا التفكير مغلوط ولايثمر أيضا؛ بل الأمر الحقيقي والأكيد هو أن من ﺣﻖ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺩﻭﻟﺔ ﻷﻥ ﻫﺬﻩ ﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻳُﻘﺮ ﺑﻬﺬﺍ، إذ لم ﻳﻌﺮﻑ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺩﻳﻨﺎ ﺑﻼ ﺩﻭﻟﺔ ﻭﻻ ﺩﻭﻟﺔ ﺑﻼ ﺩﻳﻦ، ودولة الخلافة الحقيقية التي يطمح إليها كل مسلم ستكون لنا يوما إذا ما أعملنا عقولنا وأعطينا السياسة حقها وأردفنا غيرتنا على ديننا بوعي سياسي يمكنّنا من أن نعود كما كنا يوما قادة للأمم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.