شعار قسم مدونات

ماليزيا وتركيا والجزء المفقود من قصة النهضة!

BLOGS تركيا و ماليزيا

في إحدى الجلسات الاعتيادية في مقهى مطل على القرن الذهبي في إسطنبول، تكرر النقاش الذي جرى في جلسة أخرى اعتيادية في مرتفعات أمبانغ في كولالمبور، نفس التفاصيل.. ولكن الشخوص مختلفين. يكثر الحديث بين شباب البلاد العربية عن أحلام النهوض والسير على سكة الحداثة والتقدم، تكفيك زيارة واحدة إلى إحدى دول العالم الأول -أو حتى الثاني- كي تراودك هذه الأحلام. وما أن تتفوه بحلمك هذا حتى تبدأ السجالات والنقاشات التي لا تعرف أولا من آخر.

 

وفي كل حديث عن النهضة، يتم استحضار تجارب الدول التي برزت في هذا المضمار، بدءا من سنغافورة وكوريا الجنوبية شرقا وحتى البرازيل غربا. ومن بين هذه الدول جميعا تطفو التجربتان الماليزية والتركية على السطح؛ إذ أنهما دولتان بأغلبية مسلمة، وهما الأقرب للعرب من الناحية الثقافية، وكلتاهما حققت قفزة اقتصادية وتقنية نوعية في العقود الأخيرة.

لماذا ماليزيا وتركيا؟

إن التشابه بين المجتمعات العربية وهذين المجتمعين يدفعنا دوما للتساؤل: لماذا نجحت ماليزيا وتركيا ولم ننجح نحن؟ وهل يمكن أن نسير مثلهم على السكة؟.. في الإجابة على هذين السؤالين يقع المتحاورون في خطأين؛ أولهما أنه سرعان ما تنحرف النقاشات عن محورها المفترض -وهو ما سيبينه هذا المقال-؛ والثاني أننا نحلل هاتين التجربتين من منظورنا وبنيتنا الثقافية نحن، ونهمل الاختلافات الكبيرة بيننا وبينهم. وفي التفاعل مع هذين النموذجين، ينقسم العرب إلى عدة أنماط، يهمنا هنا التركيز على اثنين منها:

حظيت كلتا الدولتين بقيادة فاعلة وذكية ومتميزة، فهمت خصوصية شعبها وحاجاته ونقاط قوته وضعفه، وتعاملت معها كما هي لا وفق افتراضات شخصية وهمية غير متسقة مع الواقع

* الأول نمط يعتبر أن التوجهات الإسلامية لقادة البلدين هي السبب المباشر في النهضة، وإذا أراد العرب النهوض فعليهم باتباع ذات النهج. في الحقيقة، يعتور هذه النظرة عيب أساسي وجلي، وهو أن من يتبنى هذه الرؤية يقيس توجهات مهاتير محمد وأردوغان بفهمه هو للإسلام وللعلاقة بين الإسلام والسياسة، ويهمل في نفس الوقت أن كلا الطرفين يصرحون باتباعهم للمنهج العلماني في الحكم (وهنا يجب أن نفرق بين مسلم يمارس الشعائر الدينية، وآخر يدعو الناس لممارسة هذه الشعائر ويحاول فرض سلوكيات وممارسات معينة عليهم).

* والثاني نمط يعتبر هذين الشعبين متميزين عن العرب ولا يمكن للعرب استنساخ هذه التجارب لنقص موجود عندنا ولكثرة التحديات القاهرة التي تواجهنا؛ وقد ترسخت هذه النظرة لدى الكثيرين بعد انتكاس الربيع العربي في كل دوله. يتناسى صاحب هذه الرؤية أن كلا من ماليزيا وتركيا قد واجهت تحديات جسيمة في بداية المشوار، فالتعدد والاختلاف العرقي الكبير في ماليزيا، وقوة نفوذ العسكر في تركيا (إلى جانب العديد من التحديات الأخرى للبلدين) قد عرقلا محاولات نهضة البلدين مرارا وتكرارا في التاريخ الحديث؛ فالصدامات العرقية الماليزية عام 1969 وما تلاها من استقطابات مجتمعية حادة، والانقلابات العسكرية الخمسة في تركيا في القرن العشرين، لهي أكبر دليل على عظم التحديات السابقة؛ بل إن بعض هذه التحديات ما زال قائما حتى اليوم.

كلمة السر في النهضة

في الإجابة على السؤالين السابقين، يرجع النجاح الباهر للنهضتين الماليزية والتركية إلى عوامل أربع -عادة ما يغفلها القارئ العربي-؛ وهي كالتالي:

1- قيادة ذكية تفهم خصوصية الشعب

حظيت كلتا الدولتين بقيادة فاعلة وذكية ومتميزة، فهمت خصوصية شعبها وحاجاته ونقاط قوته وضعفه، وتعاملت معها كما هي لا وفق افتراضات شخصية وهمية غير متسقة مع الواقع. فقد فهم مهاتير محمد تعقيدات التعددية العرقية والثقافية في ماليزيا، وتماشى مع طبيعة الماليزيين الهادئة المتجنبة للصدام فاعتمد سياسة براغماتية توافقية على الصعيد الداخلي الحزبي، وسياسات اقتصادية تراعي جميع المكونات العرقية في البلد. وفي الحالة التركية، فقد أدرك رجب طيب أردوغان تعقيدات العسكر والعلمانية في تركيا، وفهم طبيعة الشعب التركي الذي يحب الزعامة ويقدس الشجاعة؛ فتراه يعامل كل العالم بندّيّة واضحة.

في المقابل، فقد أخفقت أغلب تجارب النهضة العربية اللاحقة للربيع العربي، وظهر غياب القيادة الفاعلة والمدركة لخصوصية شعبها وحساسية المشهد السياسي في أغلب الساحات.

2- البناء على النجاحات السابقة

حين تستمع إلى النقاشات العربية حول قصص نهوض الأمم الأخرى، يظهر لك نمط شبه ثابت في رؤيتنا للنمو؛ حيث أننا في الغالب ننتظر القائد الملهَم الذي يسير بنا نحو المستقبل المشرق. وبطبيعة الحال، فإن هذا القائد الملهم سيخلف آخرا غير ملهم، لذا يقوم بنقض عمل ومشاريع سلفه لحساب مشاريعه هو، وهذا واضح جدا في الدول الملكية ذات التغيرات السريعة لرأس هرم السلطة.

 ثقافة احترام النظام هي عامل رئيس وجوهري في إنجاح مشاريع النهضة المختلفة. وقد ساهمت ثقافة احترام النظام بشكل مباشر في نهضة هذين الشعبين
 ثقافة احترام النظام هي عامل رئيس وجوهري في إنجاح مشاريع النهضة المختلفة. وقد ساهمت ثقافة احترام النظام بشكل مباشر في نهضة هذين الشعبين
 

في النموذج الماليزي، فإن مشاريع مهاتير كانت امتدادا للإصلاحات القانونية والمؤسسات والمشاريع التي بدأها أسلافه تونكو عبد الرحمن وتون رزاق بعد الاستقلال عام 1957. أما في النموذج التركي، فلا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال أهمية التحول الديموقراطي والتنظيم المؤسساتي الذي أتى به أتاتورك ومن تبعه، كما لا يمكن التغافل عن حقيقة أن غالبية المشاريع التنموية التي نفذتها حكومات الحرية والعدالة قد تم التخطيط لها مسبقا من قبل نجم الدين أربكان وحزبه.

إن البناء على المشاريع السابقة يساعد في الحفاظ على موارد الدولة من التبديد والضياع، كما أنه يقلل الصراع بين الحكام الجدد وعناصر الدولة العميقة إلى أدنى مستوياته، مما يؤدي إلى نجاح مشروع النهضة في نهاية المطاف.

3- قوانين وسياسات داعمة للتنمية

عدا عن اتباع كل من ماليزيا وتركيا نظاما ديمقراطيا في الحكم، فإن لدى النخبة السياسية هناك ثقافة داعمة للتنمية، حيث أن القوانين والسياسات التي تشرعها الدولة تلعب دورا أساسيا في تشجيع التنمية والإستثمار. فالسياسات الحكومية التي وُضعت مبكرا قد ساهمت بشكل كبير في التأسيس لنهضة تراكمية تجميعية، وقد سهلت لاحقا من عملية وضع الخطط الحكومية المركزية الدورية للتنمية. أما في الدول العربية، فما زالت القوانين أبعد ما تكون عن دعم وتشجيع الإستثمار.

4- شعب يحترم النظام

إذا كانت العوامل الثلاثة في الأعلى مرتبطة بشكل أو بآخر بالقائد أو النخبة السياسية في البلد، فإن هذا العامل الرابع مرتبط بعامة الناس، وكافة أطياف المجتمع! فحتى لو تبددت عوامل القهر والاستبداد والفساد في العالم العربي، ولو توفرت بعض العناصر النخبوية المناسبة للقيادة، فستظل نهضة العرب قليلة الأثر وبطيئة المسير في حال لم يتوفر هذا العامل.

يوجد العديد من العوامل المساهمة في تعطيل نهضة العرب، فالقهر والاستبداد السياسي والفساد وغياب الإرادة القوية وسوء الإدارة، كلها عوامل ذات تأثير مباشر وهائل في تعطيل النهضة

إن ثقافة احترام النظام في الواقع هي عامل رئيس وجوهري في إنجاح مشاريع النهضة المختلفة. وقد ساهمت ثقافة احترام النظام بشكل مباشر في نهضة هذين الشعبين. ففي الحالة الماليزية، حين توفرت الإرادة وتبلورت رؤية النهضة على يد ثلة من القادة المتميزين، انخرطت فئات الشعب المختلفة في مشروع النهضة، ولعب ميل الماليزيين لاحترام وطاعة النظام والقانون دورا أساسيا في تحقيق هذه التنمية العظيمة. وفي الجهة المقابلة، حين سنحت الفرصة للأتراك، واستلم الحكم ثلة أخرى من القادة المتميزين، أسهمت طبيعة الأتراك الميالة للجندية والطاعة واحترام النظام بشكل قوي في تحقيق النهضة. طبعا لا نلغي دور العوامل الأخرى في الحالتين.

من الواضح بشكل كبير أن هذه الخصلة يفتقدها العرب، ولا أعلم إن كان هذا الأمر جزءا من التكوين السيكولوجي الجمعي للعرب أم أنها صفة تم اكتسابها عبر سنوات من الاستبداد والاحتلال والاستعمار الغربي؟! ما يلفت الأنظار، بشكل مؤسف، هو الميل العام لدى العرب لتغليب المصلحة الشخصية المصحوب بفقدان الأمل في الإصلاح المجتمعي، مما يقود في كثير من الأحيان إلى رفض فكرة اتباع النظام بل والتندر عليها.

ختاما: هل ينهض العرب يوما ما؟

حتى لا نكون حالمين، يوجد العديد من العوامل المساهمة في تعطيل نهضة العرب، بعضها موضوعي ومنها ما هو ذاتي؛ فالقهر والاستبداد السياسي والفساد وغياب الإرادة القوية وسوء الإدارة، كلها عوامل ذات تأثير مباشر وهائل في تعطيل النهضة. ويجب التنبيه مرارا وتكرارا أن مقارنة العرب بالأتراك والماليزيين ستكون ظالمة من عدة وجوه، فتركيا لم تتعرض للاستعمار الأوروبي، ولم يقم الاستعمار البريطاني في ماليزيا بتدمير المنظومة السياسية القائمة ولا عمد إلى تعطيل مشاريع النهضة ومؤسسات الدولة كما فعل في مصر زمن محمد علي باشا على سبيل المثال.

ختاما، وبكل صراحة، لست ممن فقد الثقة بالعرب أو ممن ينظر إليهم نظرة انتقاص واتهام بالعجز. فبالرغم من كل المشاكل التي تعاني شعوبنا منها، إلا أنني مقتنع أشد القناعة أننا أقدر من غيرنا على التعايش المشترك وتقبل الآخرين، والأهم من ذلك، أننا أقدر من غيرنا على الإبداع وحل المشكلات. هذه قراءة سريعة للموضوع قد تفتقر للأدلة والإحصائيات، لكنها قناعة ترسخت عبر سنوات من العيش والاستكشاف في هذين البلدين المميزين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.