شعار قسم مدونات

مذكرات ناجية من الكلب الأسود

مدونات - فتاة حزينة

الاكتئاب.. أو كما يسميه من مروا به الكلب الأسود..
دون سابق إنذار تكتسح سماء حياتك غيوم سوداء، ويقبع على كتفيك كلب أسود، وبحسب صعوبة حالتك النفسية يبدأ حجمه بالتضاعف ليخنقك ويقتل كل شيء جميل داخلك أو حولك.. قصتي بدأت في 2010، كخريجة ليسانس جديدة كانت الحياة أمامي مبهجة وملونة بألوان زاهية. دون علم مني، ولا كيف؟ ولا لماذا؟ وجدتني أعاني كقصبة جوفاء خاوية أمام يوم خريفي مليء بالرياح ومليء بتساقط أوراق الشجر خردلية اللون.. وأنا أسمع صفيرا ينذر بأيام صعبة في مواجهتي..

 

اندثرت تلك الألوان الزاهية وتلاشت معها ضحكتي وشعوري بالسعادة، فقط تعاسة ولون رمادي يكتسي أيامي، لم أفهم حينها ذلك الشعور المفاجئ الذي يشبه غارة إسرائيلية لعينة غادرة على قطاع غزة.. داهمني فجأة من كل ناحية ولم يترك لي فرصة لأفهم ماذا حل بي؟!؟، ولما لم أعد أحب الحياة وأستمتع بلحظاتها وأعيش كل شعور بمفرده؟!! فقدت ثقتي بنفسي، اهتزت شخصيتي القوية ولم أعد أفهم ما أريد من هذه الحياة.

 

هو سؤال ينخر رأسي كما ينخر جارنا حائط غرفته الملاصق لحمامنا. بالفعل لما أنا هنا!؟؟.. لماذا خلقت؟! ولما أعيش؟ ولما أموت؟ رغم أنني أموت كل يوم لأن كيمياء مخي اختربت ولم تعد تصلني بمشاعر السعادة.. فقط تعاسة وحزن وكآبة.. وفقدان كل سبب أو هدف أعيش لأجله.. رغم أنني في العام الأول من ربيع عمري لكن الخريف أراد أن يحل محله.

 

خرجت بقناعة من تجربتي القاسية وهي أننا وجدنا على هذا الكوكب لنصارع. لنعيش.. لنفّْتك الحياة بأدق تفاصيلها لأنها ببساطة منذ البداية ملكنا ومن حقنا عيشها بسعادة

جاء شهر رمضان ولم أسعد.. وجاء العيد ولم أحس بطعمه.. سجلت في الماستر ولم أحس بشعور فرحة النجاح والتفوق.. اشتريت ثيابا جديدة.. ذهبت للبحر.. التقيت بأصدقائي.. تخرجت مرة أخرى.. تزوجت وأنجبت. إنني في ذات الشعور المقيت بالكآبة وعدم الراحة واللامبالاة بأي حدث يحصل.. ست سنوات وأنا أصارع هذا الكلب الأسود البليد.. الذي مهما طردته وجدته يترسخ في حياتي ويزعج أفكاري ويمزق طموحي..

 

طيب.. ماذا بعد.. أول مرة أجرب شعور الموت بالحياة، أن تأكل، وتشرب وتتنفس لكن بدون أحاسيس بدون تفاعل مع نفسك أو مع غيرك او مع أحداث العالم. مرت ست سنوات وأنا أحاول أن أهرب من هذا المرض اللعين ولم أستطع. لم أطلب مساعدة لأنني لم أعرف وصف ما بداخلي.. أو خوفا من كلمة مجنونة. ست سنوات وما زلت في صراع يومي للإجابة على عدة أسئلة تتبادر إلى ذهني كل يوم فور استيقاظي من النوم: من أنا؟.. لماذا أواجه هذا الألم النفسي يوميا؟.. ما هدفي من الحياة؟؟ والكلب الأسود يستمر بالنباح داخل رأسي ليزعجني ويزعج عقلي وكياني. كنت أخاف من الموت.. أخاف من الحياة في ذات الوقت.. لا أستطيع النوم جيدا.. ولا حتى الأكل جيدا.. تراجعت على جميع الأصعدة ولم أعد أهتم.. فكرة سلبية وراء الأخرى ..لا جديد يذكر.

 

ولأن الكلب الأسود يكبر من تضاعف إحساسي بالضعف قررت أن أضع حدا لهذه الحلقة المفرغة وأرجعه إلى حجمه الطبيعي.. ومثلما كنت قوية دائما قلت لنفسي أنه حان وقت النهوض بتوقيت عزيمتي. لم أكن أعرف من أين وكيف أبدأ. لكن آمنت بربي وبذاتي وأن نهايتي لن تكون على يد الكلب الأسود. سمعت وقرأت أن أكثر شيء يريح ويخفف شدة الاكتئاب هو التواصل الروحي والتأمل.. كنت أستغفر يوميا وأضع ثقتي بالله رغم تقصيري تجاه واجباتي الدينية نتيجة هذا المرض لكن حاولت أن أبقي خيطا مع الله.

    undefined

  

ثم آمنت بذاتي رغم الهزة العنيفة التي مررت بها وزعزعت كل أعمدة استقراري، كرست وقتا لحضور فيديوهات عن التنمية البشرية لرفع معنوياتي. وكذا وقتا للبحث عن الاكتئاب وأنواعه ودراسته ومعرفة من عدوي وكيف ستسير حربي ضده. عرفت الأسباب المتفرقة التي دفعت بي للوقوع في شباكه.. بدأت أغير عادات أكلي والأطعمة السريعة والعصائر المحلاة بالأكل الصحي.. ثم بدأت بتحريك جسمي بالمشي والهرولة.. التفتت إلى القراءة.. وكنت أحاول أن أقرأ القرآن الكريم رغم أنني لم أحس بتأثيره داخلي في بداية الأمر.

 

أصبحت أميل لمشاهدة الأفلام الكوميدية وأرغم نفسي على الابتسام.. ثم الضحك حد القهقهة. حاولت مرات ومرات إيجاد أصدقاء لكنني كنت أفشل في كل مرة فاكتفيت بأخواتي وأهلي. ثم صادفت صديقة واحدة وتوالفت معها وكنا غالبا ما نخرج لشرب عصير طبيعي وتغيير مزاج اليوم، بحثت عن عمل لأملئ وقتي وأغير من روتيني اليومي كان دواما في مدرسة وخفف عني الاحتكاك بالطلاب وللمدرسين قليلا من الضغط النفسي.. ثم صرت أهتم بنفسي وبمظهري أكثر.. التفت للعناية بصغيرتي أكثر وبدأت أرى بأنها نعمة في حياتي وليست عبئا كما كنت أرى من قبل.. بدأت أتحسن صحيا ومن ناحية العلاقات الاجتماعية كذلك.

 

وبدأ الكلب الأسود يتضاءل وينزل قليلا من على كاهلي.. صرت أحس ببعض الراحة.. وأتفاعل مع الأخبار السارة.. أطبخ بقليل من النفس الطيب.. أرتب منزلي لأنه صار يشعرني بالألفة والراحة. لم أعد غاضبة طول الوقت.. بل تحسن مزاجي وصرت أحب.. نعم نعم أحب القيام بأشغالي اليومية. لم يكن سهلا أبدا أن أواجه الاكتئاب وأخرج منه خصوصا أنه بقي معي في أهم مرحلة في عمري وهي زهرة شبابي.. فكان معي حين نجحت، وتزوجت وحين تغربت وسافرت وفي حملي وولادتي وزاد الطين بلة عندما فقدت جدتي وخالتي المقربة. لم يكن حلا أن أهرب منه.. بل كان الحل في مواجهتي له رغم ضعفي وقلة اسلحتي..

 

أخيرا استطعت أن أهزم الكلب الأسود وأبعده عن حياتي وعن تفاصيلها.
بدأت رغم عدم تأكدي من النجاح، لكنني فعلت.. كانت خطوة صعبة لكن بنتيجة رائعة.
استرجعت حياتي وصرت أعيش كل تفاصيلها وأحسّها حرفيا.
وخرجت بقناعة من تجربتي القاسية. أننا وجدنا على هذا الكوكب لنصارع. لنعيش.. لنفّْتك الحياة بأدق تفاصيلها لأنها ببساطة منذ البداية ملكنا ومن حقنا عيشها بسعادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.