شعار قسم مدونات

شكراً ريم بنا

blogs ريم بنا

الموت في حد ذاته ليس مفاجئاً. تفقد سيرة الموت مهابتها في أيامنا تلك وتمر مروراً خفيفاً على القلب، يحدث ذلك حين يصبح الموت اعتيادياً وكثيفاً وغير منطقياً كما نرى الآن، أتحدث عن أولئك الصغار والكبار، الشباب والفتيات والعجائز الذين يقتلون في سوريا ويدير لهم العالم ظهره وترتد إليهم صرخاتهم خذلاناً وصمتاً مطبق، عن أولئك الذين يذهبون ضحية للقمع في وطني المدرج بالخوف والعار، عن هيستيريا القتل والتوحش المنتشرة في هذه الأثناء في غير منحى من الأرض.. عنا نحن.. نحن الذين نشارك الطواغيت في إثمهم لأننا جميعاً نشاركهم مشهد جرائمهم حتى ولو بالعجز والخوف وقلة الحيلة، كل هذا يجعل من سيرة الموت أمراً سهلاً ولكنها تظل تحفظ لنفسها بعضاً من نزق الأمس، لا تخلو من أثر يخدش القلب ويحط عليه مسحة حزن.

 

ريم بنا ماتت وفي حالة ريم هنا أشعر بمسحة حزن عميقه واطمئنان في آن واحد، أشعر بالحزن لأننا فقدنا شخصاً نبيلاً وصوتاً جميلاً وضميراً حراً، يشبهنا ولطالما انتمى إلينا وأقصد هنا ب "إلينا" هذا الجيل، وبالنسبة لي تظل الثورة هي الملهمة لمعظمنا على الرغم من اختلافنا وحنقنا على بعضنا اليوم، إلا أن الثورة في صورتها الأولى ما زالت تمثل لنا حالة الانتماء والإلهام تلك، وربما أشعر أن ريم تخصنا وتشبهنا لا لأنها انحازت إلى الثورة في صورتها التي نحب بل كذلك لأنها مثلت فكرة المقاومة.. مقاومة الاحتلال ثم مقاومة المرض ومقاومة الظرف السائد المسبط ورفضه، الثورة أصلاً لم تكن ضد أي شيء سوى الظروف والسائد.. الظروف التي لم تعجبنا أبداً ليس لأننا لا يعجبنا شيء، بل لأن تلك الظروف كانت تجسيداً لشيء خاطئ لا يجب الاستسلام له.

بالطبع نحن لسنا ملائكة، بل على العكس تماما، نحن ربما تجسيداً لكل وهن الإنسان وخطئه، لكننا كأي طفل شقي حلم ووثب، تمنى وصرخ لكنه سُجِن وعُذِب وأوذي وشُوِه وحُرِق حلمه أمام عينيه يوم رأى جنائز أصدقائه تمر في شوارع نصفها يرقص ونصفها يبكي جهراً أو سراً خوفاً من آلة الفرز الوقحة التي تفرز الناس حسب اعتقادهم ولا تجمع بينهم تحت مظلة حقوقهم.

ما تركته لنا سيدتي ريم هو فكرة
ما تركته لنا سيدتي ريم هو فكرة "الاتساق" وكيف للإنسان أن يعيش محاضراً عن أشياء يموت وهو قابض عليها
 

وأشعر بالاطمئنان لأن ريم لم تخذلنا لا في كلماتها فحسب بل في ذاتها، لقد كانت هي ريم نفسها التي تمنيناها.. صوتها، كلماتها، مواقفها، ونوعاً ما أشعر أنها ولآخر قدرها من الدنيا كانت راضية تماماً عما بداخلها. سمعت ريم تقول عن نفسها أنها لم تأبه أو تهتم للشهرة منذ بدايتها بل كانت تأمل أن ترى تلك الكلمات التي تعتقدها وتغنيها تتردد من حولها كانت ترى أن هذه هي رسالتها وهذا هو الشيء الذي يجب أن تكونه.. حسناً يا ريم أنا في الغالب شخصاً عادياً، أحيا في منطقة مجهولة من الأرض، وفي الغالب لا تواتيني رغبه الكتابة أو الكتابة عن أحدهم، ولكني قرأت خبر رحيلك اليوم، أمسكت بالقلم وبدأت في كتابة تلك الكلمات لا لشيء إلا لأنك تركتِ هذا الأثر في دواخلنا..

 

ما تركته لنا سيدتي هو فكرة "الاتساق" وكيف للإنسان أن يعيش محاضراً عن أشياء يموت وهو قابض عليها، لم تكوني كأولئك الذين لطالما حدثونا وتغنوا لنا بأصوات مبحوحة يملأها الشجن عن الثورة على الظلم واعتناق الحق واصطفاء القابضين على الجمر المضطهدين في الأرض. وعندما آنت لحظة الاختبار وجدتهم من آل الطواغيت وبائعي شرف الكلمة والأرض في أسواق النخاسة.. لم ينحازوا لضمائرهم وهويتهم التي لطالما تملقونا بها، بل انحازوا لسوط الجلاد على حساب أظهر المظلومين.. وكنتِ أنتِ عكس ذلك كله.. شكراً ريم بنا، رحمك الله وغفر لكِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.