أثار أمير تاج السّر في روايته ثيمة الإرهاب أو الظلامية والجهاد والقتل باسم الدّين. حيث عبث الجهاديّون الملثّمون بالمدينة واستباحوا أهلها، رجالَها ونساءَها، باسم الشريعة والدّين |
في زمن بعيد، يعود إلى فترة حكم الأتراك، وفي مدينة "السّور" القريبة من مصر، المدينة الهادئة حيث يتعايش القبطيون واليهود والبوذيون وقلة من المسلمين، اندلعت ثورة باسم الدّين. ثورة ظهرَتْ نواتُها في قرية مجاورة تُدعى "أباخيت". تشكّلتِ الجماعة الجهاديّة، استقطبت شباب "السور"، تقوّتْ، ثمّ صارت تطالب بتسليم المدينة. الثورة قادها جهاديون ملثمون يتزعمهم داعية مجهول اسمه "المتّقي". الثّوار سيطبقون حصارهم على مدينة "السّور". سيقطعون الطرق على القوافل. ستسقط المدينة في النّهاية وستُدك على يد هؤلاء وتُستباح قتلا وذبحا وسبيا باسم الدين والشريعة. وستحلّ المجاعات وتنتشر الأمراض.
البطلة خميلة عازر، عشرينيّة ابنة تاجر قبطيّ غنيّ وأمّ طاليانيّة، ستحكي كيف آلَ بها الأمر إلى سرداب في "ساحة المجد" حيث النساء يتجاذبن أطراف الحديث عن البلاء الذي أصاب السور وكيف اختفى أولادهم وانضمّوا إلى جيوش المتّقي. ستستحيل "السور" إلى خراب غارقةً في البؤس والتعاسة والقبح والوسخ والضياع والموت. في ظلّ هذا الخراب ستُسبى خميلة مع نساء أخريات. كل نساء السور صرن من الغنائم، وكلّ من لم تكن غنيمة جيدة دُفنت في سراديب "ساحة المجد" التي صار اسمُها "بئر الشيطان". أما رجال السّور فقد صاروا رؤوس حيّات في عين الغازين يُستهدَفُ قصُّها سواء كان الضحايا بوذيين أو قبطيين أو مسلمين. خميلة ستحمل مرغمة اسما جديدا؛ "النعناعة".
فقد كشف الكاتب عن مآسي هؤلاء النّساء (حطب الثورة)، من خلال رصد حياة البطلة خميلة ورفيقاتها؛ "ماريكار" و"أمبيكا بسواس" الحامل، و"حسناء"، و"طائعة". كل هؤلاء النساء/الزهور سيصرن سبايا عالقات في شرك"المتقي" وزبانيته الذين لم يكونوا أهل تقوى. شَرَكٌ لا علاقة له بالعقائد. هؤلاء منهنّ من سيُقتل، والبقيّة ستَحمِلْنَ خساراتهنّ على أجسادهنّ. شعارهنّ خسارة الأريج وخسارة الرّونق. تقول الساردة: " شعار الخسارات.. يا إلهي.. الزهور التي تأكلها النّار.. يا إلهي لشدّ ما يمثلنا الشّعار. لشدّ ما يصبح نحن، ونصبح هو.. لكن هل فعلا ستأكلنا النّار كلّنا؟ أم يبقى بعض الأريج يعطّر أجواء المدينة.. ص112 . لقد صرن زهورا تتربّع في النّار، نار السبي. يلتقين فيتبادلن الوجع وهنّ موتى، شبيهات بالأحياء.
فالرواية بهذا تصوّر مآسي الثورات الجهادية، الإرهابية بالمفهوم المعاصر، وما تخلّفه وراءها من خراب. تلك ثورات جهاديّة قديمة باسم الدّين، رصدَها الكاتب في الرّواية. وهو بذلك يقصد، بشكل غير مباشر، ثوراتِ العصر الحديث ويحيل إلى المنظمات الجهادية وجرائمها، ويميط اللثام عن شطط الجماعات الإسلامية التي تبث الإرهاب والموت في كلّ بقعة وطئتها.
نصّ هذه الرّواية "زهور تأكلها النار" جاءَ كإجابة عن سؤال إحدى القارئات (سارة)؛ حيث سألَتِ الكاتِبَ عن مآل المرأة السبية في روايته السابقة "توترات القبطي". فكان جوابُه، كما هو مبثوث في أول الرواية |
تظافرَ كلٌّ من السرد والحوار والوصف في تشكيل متخيل الرواية. سردُ "زهور تأكلها لنّار" سردٌ سلس، يقوم على لغة بصريّة تصويرية تميل إلى البساطة. ورغم جنوح الرواية في مُجملها إلى السرد انسياقا مع تنامي الأحداث وما تفرضه القصة من سلطة على المؤلِّف، فقد تمّ تشغيل آلية الوصف لخدمة الوظيفة التصويرية للغة. ومما يميّز الوصف عند أمير تاج السِّرّ هو أنّه وصف غير خالص تماما؛ يَقُومُ كمحفّز سرديّ يساهم في خلق دينامية سردية يستشعرها القارئ وهو ينتقل من مقطع إلى مقطع، ومن فصل إلى آخر على امتداد فصول الرّواية الأربعة.
وفي آخر هذه القراءة الوجيزة، لا يفوتني أن أشير إلى أن نصّ هذه الرّواية جاءَ كإجابة عن سؤال إحدى القارئات (سارة)؛ حيث سألَتِ الكاتِبَ عن مآل المرأة السبية في روايته السابقة "توترات القبطي". فكان جوابُه، كما هو مبثوث في أول الرواية، أنّ هذا النّص (زهور تأكل نفسها) سيخبر القارئة بما حدث. وما يمكننا استنتاجه من هذا الاستهلال هو أنّ الكاتب يعتني بالبُعد التداولي في تجربته الرّوائيّة، بحيث إنّ فعل الكتابة لديه محكوم بتطلعات المتلقّي ومدى تفاعله الإيجابي مع النّصّ الروائيّ. كما يشي هذا الاستهلال، أيضا، بتعالق نصوص أمير تاج السّر، فبعضها يحيل على البعض الآخر، وبعضها تتميمٌ وتَكْملة لنُصوص سابِقة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.