شعار قسم مدونات

علم الاقتصاد وعلاقته بالعلوم الاجتماعية..

مدونات - علم الاقتصاد

من الطبيعي أن نقرر أن علم الاقتصاد جزء من العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ أنه يدرس السلوك الاقتصادي الإنساني من جهة، وطبيعة الثروة من جهة أخرى، وهو علم اجتماعي سلوكي ومن المعروف في حقل العلوم الاجتماعية أن مجالاته المختلف تتداخل فيما بينهم، وهذا طبيعة السببية التي اشتهرت بها العلوم الاجتماعية، فالسلوك الاقتصادي لا يمكن له أن يستغني عن التأثيرات الثقافية والاجتماعية والأخلاقية وحتى النفسية، وعلاوة على ذلك يسعى علم الاقتصاد بالخروج عن هذا السياق واعتماد الرياضيات كمنهج تحليلي، فهذا يعود إلى طروف نشأة العلوم الاجتماعية والجدال المثير حول المنهجية العلمية في العلوم الاجتماعية، لذلك لكي يخرج الاقتصاد من هذه الورطة حاول بصورة مفرطة استخدام الرياضيات، وسنعود إلى علاقة الرياضيات بالمنهج الاقتصادي.

 
الواضح في الدارسات الاقتصادية التركيز على الجانب الاقتصادي بوصفها ظاهرة مستقلة في ذاتها ويعزلها عن أسرتها الاجتماعية، فهذا النوع من الاستقلال يجعل الاقتصاد علماً تقينا وليس علماً يهتم بالسلوك الإنساني، وبالتالي فهنا يأتي الانهمام بالرياضيات بعد عقدة المنهجية العلمية، حيث يحاول معظم علماء الاقتصاد إعطاء نظرياتهم صبغة علمية دقيقة، فيتجه التحليل الاقتصادي المتعلق بالاستهلاك مثلا وهي عملية سلوكية إلى وضع قوانين ومعادلات وهي غير ضرورية، لأنها بديهية لا تحتاج إلى كل هذا التعقيد، فدالة الاستهلاك c تساوي a زائد bp وتعني أن الاستهلاك تساوي الدخل الشخصي المتاح (إضافة) الاستهلاك التلقائي، أي قيمة a تعني الاستهلاك التلقائي أي أن الإنسان يستهلك وإن لم يكن له دخل، فهذه القيمة الرياضية تأتي بصورة بديهية على كل إنسان وإن لم يدرس الاقتصاد، وهذا الذي يفسر أن التاجر المتمرس أكثر معرفة بالسوق من الطالب الاقتصادي، لأن المعلومات التي يعقدها الطالب الاقتصادي تعني عند التاجر العادي معلومات بديهيه يكتسبها عن طريق خبرته العملية، وليس من الضرورية أن يستمر الاقتصاد على هذا المنوال لابد من إعادة النظر في النظريات الاقتصادية.

 

يقوم التحليل الاقتصادي على طرق ثلاثة لوضع النظرية الاقتصادية:

مازال على علم الاقتصاد بعد أن يتغلب على شغفه الطفولي بالرياضيات والتخمين النظري المحض، والذي عادة يكون أيديولوجيا جدا، على حساب البحث التاريخي والتعاون مع العلوم الاجتماعية الأخرى

– الطريقة الوصفية وهي طريقة لفظية
– الطريقة الرياضية وهي تحدد علاقة الدالية بين المتغيرات الاقتصادية
– الطريقة القياسية وهي محاولة معرفة العلاقة الكمية التي تربط بين المتغيرات

 

وهذه الطرق الثلاثة هي التي تنتج النظرية الاقتصادية، وهي طرق يعتمدها العلماء الاقتصادين وخاصتا الطرق الرياضية والقياسية. لا يمكن أن ننكر أن هناك محاور في علم الاقتصاد تحتاج إلى تدقيق رقمي مثل رأس المال والإنتاج وهذه تستخدمها الشركات والمؤسسات المالية، لأننا قلنا إن الاقتصاد يدرس السلوك الإنساني إضافة إلى الثروة، فالجانب المتعلق بالثروة فهي جانب مادي يمكن دراسته رقميا، لكن السلوك الإنساني يصعب عليه الترقيم والمعادلة، وتكمن مشكلتنا في هذا الجانب، لأن البديهيات التي يحولها علماء الاقتصاد إلى معادلات نعتبرها أمرا غير ضروري، بل ينبغي أن يكون علم الاقتصاد في هذا الوضع جزءا من العلوم الاجتماعية.

 

في هذا الشأن يقول الباحث الاقتصادي الشاب توماس بيكيتي "أقولها بصراحة، مازال على علم الاقتصاد بعد أن يتغلب على شغفه الطفولي بالرياضيات والتخمين النظري المحض، والذي عادة يكون أيديولوجيا جدا، على حساب البحث التاريخي والتعاون مع العلوم الاجتماعية الأخرى، عادة ما ينشغل الاقتصاديون كثيرا بالمسائل الحسابية التافهة التي لا تهم سواهم. هذا الهوس بالرياضيات هو طريقة سهلة للحصول على مظهر علمي دون الحاجة للإجابة عن أسئلة أكثر تعقيدا بكثير يواجهها العالم الذي نعيش فيه".

  undefined

 

وإضافة إلى ذلك تتجاهل النظرية الاقتصادية بمفاهيم محورية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية مثل مفهوم المساواة واتساع فجوة التباعد بين الأغنياء والفقراء، وأزمة الفقر العالمية أو ما يعرف بالتفقير، وكذلك التنمية والثقافات الاجتماعية، والصراع على الثروة، وغيرها من المفاهيم النظرية التي لها وجود حقيقي في العالم لكنها شبة مفقودة في النظرية الاقتصادية. يبدو بعد انهيار الدول الأوروبية وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية تطور دراسات التنمية كرد فعل على الأزمات التي خلفتها الحروب.

والشيء المثير أن العلوم الاجتماعية تتطور حسب تطور المركزية أي أوروبا وأمريكا، وهم الذين يدرسون الشق الآخر من العالم، وعلاوة على ذلك فان الاستعمار عندما أنتج المعرفة فإنه أعاد إنتاج العالم من جديد، أعاد إنتاج الآخر وعرفه حسب رؤيته، وكذلك النظرية الاقتصادية المتعلقة بالتنمية صارت تدور في حلقة مفرغة، وكل المؤسسات الاقتصادية التي تم إنشاؤها في هذا الوقت وأهمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لم يقدموا سوء تسريع وتيرة التفقير وإنتاج أزمات جديدة، مثل أزمة الديون، وأزمة التصحيح الهيكلي. وبالتالي فإن النظرية الاقتصادية التي أنتجها جون مينارد كينز أثناء الكساد العظيم فإنها تعالج أزمة الرأسمالية والتي خلقتها الأنظمة الرأسمالية، وهي بالذات مشكلة أوروبية، والقوانين التي وصل إليها كينز لا تعني أنها قوانين تشمل كل الدول.

 

وعلى هذا الأساس نعيد دعوة إعادة دراسة النظرية المعرفية التي يعتمدها علم الاقتصاد ليكون علما يخدم أيضا مجتمعات غير رأسمالية، ويقدم حلولا عقلانية تعالج الأزمات التي خلقتها الأنظمة الرأسمالية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.