شعار قسم مدونات

رضا المُحبين..

مدونات - امرأة عجوز

شاءت الظروف أن أتواجد بإحدى طرقات الانتظار الضيّقة والمكتظة بالأشخاص، بمستشفى الرمد بإمبابة. أمام غرفة الكشف بالليزر كان الجميع ينتظر دوره في الدخول، بعد أن تنادي باسمه تلك الممرضة كالحة الوجه، ذات الصوت الجهوري المخيف. ساد الصمت المكان، وعلت الهموم وجوه المرضى الجالسون على مقاعد خشبية، والذين افترشوا الأرض بعد أن زالت فرصهم في الحصول على أحد تلك المقاعد.

 

من بعيد، جاءت عجوز تستند إلى عكازها الخشبي، فقام لها أحد الشباب، وأجلسها مكانه؛ فشكرته بابتسامة، واطمأنت في جلستها بهدوء، وأخذت تحمد الله بأنفاسها المتقطعة. الوقت يمر، والطرقة تزدحم أكثر فأكثر، والحصول على شيءٍ من الأكسجين النقيّ بات شيئًا صعبًا، وراح أناسٌ كثيرون ممن يفترشون الأرض في نومٍ عميق، وبين الحين والآخر تخرج من غرفة الكشف "ملاك الرحمة" تلك، بصوتٍ يُشبه صوت "ميس روز -زهرة الخشخاش المتفتحة-" في فيلم "شركة المرعبين المحدودة"، معلنة فوز أحد المنتظرين أمام الغرفة بجائزة الدخول إليها، مستعينة بساعدها القوىّ في جذب المريض إلى الداخل، وإغلاق الباب في وجه الآخرين بسرعة وقوة، كي لا يتسلل أحد الزاحمين، ويدخل إلى جنةٍ ومُلكٍ لا يبلى.

 

بدا أن الوضع لم يعجب امرأة كانت تجلس بجوار تلك العجوز التي أتت قبل قليل؛ فراحت تكسر الملل والرتابة، وتستعين بالحديث على قضاء الوقت؛ فسألتْ العجوز عن سبب مجيئها إلى المشفى؟ فأجابتها العجوز بنبرة مليئة بالرضاء وقالت: "لقد أجرى لي الطبيب الله يسامحه مطرح ما هو قاعد عملية في عيناي منذ عامين، لم تكن ظروفي الماديّة تسمح؛ فعملتها على نفقة الدولة. لكن للأسف؛ فقدت في إثرها عيني اليسرى، وبعد محاولات عديدة في مستشفى أخرى كلفتني الألفين جنيه "اللي كنت محوشاهم" باءت جميعها بالفشل. لكن الحمد لله أنا بشوف بعيني اليمين شوية، يعني أنا دلوقتي شايفة الجدع اللي ساند ضهره هناك على الحيطة ده -وأشارت إلىَّ-" فابتسمتُ لها ولوّحت لها بيدي محييًا لها، فردت التحيّة بكفها الأسمر المرتعش المليء بالتجاعيد. "لكن لو خلعت النظارة؛ لا أرى إلّا شيئًا بسيطًا وخلعت نظارتها (القعر كوباية)"، وأعادتها مرة أخرى.

 

الحكمة لا تقبع فقط في طيّات الكتب والمجلدات، ربما تجدها عند أناس بسطاء تقابلهم في وسيلة مواصلات، أو تجالسهم في إحدى المقاهي، أو تسترق السمع لحديثهم في طرقات المستشفيات 

– "اليومين دول عيني بقت بتوجعني جامد، وخايفة تروح مني هي كمان".
– "بعد الشر عليكي يا حاجة. قالتها امرأة ثالثة تحمل رضيعها كانت تقف بالجوار، ترقب حوار العجوز، كغيرها من الحضور.
– الله يسلمك يا بنتي. ثم أجابت عن سؤال آخر سأله أحد الجلوس، عن عدم مجيئ أحدٍ يرافقها في رحلتها إلى المستشفى. فقالت: زوجي محفوظ رجلٌ عجوز -داخل في ال68 سنة-، ويلازم الفراش منذ مدة، ولا يخرج من البيت، وأقوم أنا برعايته في شقتنا التي خلت من ولداي اللذين تزوجا بالشقتين اللي فوقينا، اللي "وضبهم وجهزهم جوزي من عرق جبينه" الحمد لله. وولداي الاثنان كل واحد في عمله -ربنا يعينهم ويساعدهم، ويرزقهم برزقه-. وطالما قدماي تحملني، وأستطيع التحرك -أه بعكازين- بس الحمد لله. فما ضرورة لأن أتعبهما معي!

 

ثم أردفت: أتمنى من الله أن يحفظ عيني من مصير العين الأخرى؛ فهي التي أستعين بها على رؤية زوجي وخدمته، وإن كانت قد أصابها بعض المرض، إلا أنّها سبيلي في "تشويح حتة لحمة، أو تحمير حبة بطاطس.. أو عمل كوبايتين شاي ليا أنا ومحفوظ، واحنا بنتفرج على التليفزيون سوا".

 

وعند سؤالها عن زوجتا ابنيها، وهل تقوما بمساعدتها أم لا، قالت: ولادي كل فترة بينزلوا يطمنوا علينا، ويشوفوا إذا كنّا محتاجين حاجة أم لا؛ أمّا زوجتيهما فلا. "محدش بيشتري الحنيّة يا بنتي"، الله يسهّل لعبيده.. كنت أتمنى من الله أن يهبني البنات. "يا مخلف البنات، يا شايل الهم للممات"، قالتها تلك المرأة الجالسة على الأرض، وأردفت مقولتها ضحكة، ربما لم تعجب العجوز فردت عليّها، وقالت: من قال هذا؟ دعوت الله أن يهبني البنات فلم يأذن، وله الحمد في ما أراد، لكن "البنت تشيل أهلها وأمها، طول عمرها فوق راسها.. لكن الواد توهبيه عمرك كلّه، ولما يفكّر يشيلك؛ بيشيل خشبتك ويوديكي المقابر"، قالت ذلك وبكت رغمًا عنها، فالتف حولها البعض، وأخذوا يهونون عليها ألمها.

"سامية عبد ربه حسن"، أطلت الممرضة من باب الحجرة، ونادت بهذا الاسم؛ فقامت تلك العجوز من مكانها، وتوكأت عكازها، وهمّت بالدخول إلى غرفة الكشف، وفي خطواتها البسيطة، كانت تُتمتم بقول "الحمد الله.. يا كريم يا رب".

 

إن الحكمة لا تقبع فقط في طيّات الكتب والمجلدات، ربما تجدها عند أناس بسطاء تقابلهم في وسيلة مواصلات، أو تجالسهم في إحدى المقاهي، أو تسترق السمع لحديثهم في طرقات المستشفيات؛ كتلك العجوز التي تعلمتُ من حديثها أشياء كثيرة: كالاعتماد على النفس عندما يتخلّى الأقربون، والإصرار على استكمال الحياة، ولو بعينٍ واحدة، وأخرى تأذن بالذهاب، والوفاء والمساعدة لمن نحب، وإن كنا في حالة تستحق الرثاء والمساعدة، وأن نُكمل المسير بين صعاب حياة، وحوادثها الجسام بشيء من الرضا تحويه القلوب، وتردده الألسن بآيات الحمد والشكر. حملتُ في نفسي في ذلك اليوم الكثير من المحبة، والشكر، والغبطة لتلك العجوز؛ فمنها تغيّر لدي مفهوم "الرضا" الذي كنتُ أجهله، وبها ازددت يقينًا بأنّه دائمًا "الحمدُ لله.. يا كريم يا رب".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.