شعار قسم مدونات

العقل بوصفه تفاعلا بين قلب يفكر ودماغ يقدر

blogs تفكير

القلب قرآنيا ومن حيث الأحاديث الشريفة ليس مضخة للدم فقط، بل به يكتمل العقل والتفكير الموصل إلى الحق سبحانه، قال تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (24) سورة محمد. الله عز وجل في الآية الكريمة، يذكر مسألة تدبر القران ويربطها بالقلب، لأنك قد تقرأ القران بلسانك فقط فلا تفهم من آياته شيئا، لكن حينما تتدبره بقلبك فان الأمر يختلف، وستفهم الآيات بالرغم من تدني مستواك العلمي أو رفعته، لهذا الله عز وجل خاطب المنافقين بكونهم أقفلوا قلوبهم، وما عاد القرآن بتلاوته ينفعهم، بل إن الشيطان استغل هذا المستجد، وأضحى يتقمص وظيفة القلب، وحور دورها من الإرشاد والتذكير، إلى الإفساد والتغرير.

كثيرة هي الآيات الأخرى التي تشير إلى دور القلب في تمام العقل، ولعل من أظهرها لهذا الأمر، الآية الكريمة التي يقول فيها الله عز وجل: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ". الحج: 46.

وان كان المهتمون بالموضوع إسلاميا يجعلون القلب مركزا للعقل، على عكس العلماء والباحثين الدنيويين الذين يحددونه في الدماغ، فإني وباهتمامي بالموضوع وبحثي فيه، توصلت لرؤى أخرى، مفادها أن العقل هو عملية تفاعل بين القلب والدماغ، ولا يرتكز في أي جهة منهما، ولله العلم وحده.

كيف يتطور عقل المولود؟

المولود بداية يولد بقلب مفكر، ودماغ ساذج فارغ، قلب مليء بالمخزون الفطري المومن بالله الموحد، المثالي في التعامل إلى أقصى الحدود، الذي لا يفقه في الشر شيئا. هنا بالرغم من وجود هذا المخزون القلبي الهائل الموصل إلى الحقيقة المطلقة، إلا أننا لا نستطيع الحديث عن العقل، وإلا لكان الرضيع بمجرد ولادته مكلفا، توجب عليه الفروض والأحكام الدينية، وهذا أمر غير وارد فسن التكليف، يتحدد بمجرد احتلام المرء وبلوغه.

القلب يتفق فيه الكل بمخزوناتهم الفطرية، فما يوجد من مخزون فطري وحقيقة مطلقة هو ذاته ما يوجد لديك ولدى الأخر، باستثناء العواطف التي يكتسبها قلب المرء من أمه ومحيطه

الطفل الرضيع الى حدود سن معينة يملك حقيقة مطلقة في ذاكرة قلبه، أودعها الله عز وجل فيه، لكن لكي يوصلها إلى الآخرين فهو لم يكتسب قدرة وتمكنا جسديا تؤهلانه للتعبير عن تلك الحقيقة، وإذا وقعت ففي الأمر معجزة، وقرآنيا ذكرت هذه المعجزة، من خلال تكلم سيدنا عيسى في المهد صبيا، فالله عز وجل وهب عيسى خاصية تبليغ تلك الحقيقة التي يمتلكها في قلبه إلى عموم المحيطين به. قال تعالى في سورة مريم: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)صدق الله العظيم.

هكذا يكون الطفل صغيرا لا يعرف الا الخير في هذا الوجود، فحقيقة قلبه واحدة مطلقة لا تخضع لهذا الزمان ولا المكان الذي ولدت فيه، لكنها حقيقة تبدأ في التوازن مع نضج الدماغ واكتسابه للمعلومات الخارجية، التي ينهلها من الأبوين والإخوة والمدرسة والشارع والدولة.. وهو من خلال الأخطاء يتعلم، فتارة يستخدم قلبه فيخطئ لأنه تجاهل دماغه ومحيطه، وتارة يستخدم دماغه فيخطئ لأنه تجاهل قلبه ومخزونه الفطري.

هل مخزون القلب واحد أم متعدد؟ وماذا عن تغير العواطف في رؤيتنا لهذا وذاك؟

إن القلب يتفق فيه الكل بمخزوناتهم الفطرية، فما يوجد من مخزون فطري وحقيقة مطلقة هو ذاته ما يوجد لديك ولدى الأخر، باستثناء العواطف التي يكتسبها قلب المرء من أمه ومحيطه فهذه ذاكرة مستحدثة ومكتسبة في القلب وليست فطرية فيه، فما هو فطري حب أمه، لكن المستحدث هو حبه لأمه باسمها ذاك، وكنهها ووصفها الذي يراه بإدراكه، ما هو فطري حبه للناس جميعهم، لكن هناك مدخلات تدخل عليه في واقعه، وتفرض عليه الأخذ بأضداد الأمور، فبعد أن كان يحب، سيكره، فالحب قيمة مطلقة في ذات الإنسان تولد معه، لكن الكره قيمة مستحدثة يكتسبها مع توالي أيام الحياة. كذلك الأمور بالنسبة للعواطف الأخرى.

ثم إن عملية التذكير والكشف عن مكنون وكنز هذه الحقيقة المطلقة، هو الذي يتغير من شخص إلى آخر. بل إن عملية التذكير تلك، تحتاج مذكرا يتجلى في الرسل الكرام، فإن غابوا نظرنا إلى كتبهم السماوية، ولله الحمد لنا قرآن كريم يذكرنا ويحيي ما في قلوبنا، لتكشف الأفئدة خزائنها من بحر الحقيقة المطلقة. هنا أود الإشارة إلى مسألة القلوب الاصطناعية التي يحتج بها البعض، على كون أن التفكير يبقى قائما، بالرغم من تغير القلب، لكن إنتاج التفكير، ليس دليلا على تمام العقل ونضجه، فهناك تفكير مادي فورى لا يحتاج رجوعا للقلب واستشارة مخزوناته، كالعمليات الحسابية مثلا، فهذه مرتبطة بالذاكرة الدماغية وليس بالذاكرة القلبية.

العقل بوصفه تفاعلا بين قلب يفكر ودماغ يقدر

هنا نصل إلى صلب الموضوع، هذا الصلب الذي سيتجلى مع آيات كريمة تظهر عملية هذا التفاعل بوصف بارع جليل، في سورة المدثر، قال تعالى: "إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)".

نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة، المعروف بحكمته ورجاحة عقله في قريش، الوليد بن المغيرة وصل حيال الدعوة المحمدية إلى تفكير عقلي تام، حيث قال واصفا القران الكريم: "والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما يقول هذا بشر".

 

علاقة الدماغ بالقلب كما رأينا، علاقة تفاعلية، هي علاقة إن تمت تنتج فكرا عقلانيا، لا اجترارا استذكاريا، أو منطقا حسابيا
علاقة الدماغ بالقلب كما رأينا، علاقة تفاعلية، هي علاقة إن تمت تنتج فكرا عقلانيا، لا اجترارا استذكاريا، أو منطقا حسابيا
 

لكن هذا العقل لم يسعف الوليد إلى الإيمان، فكان إن فعل ذات موقف إبليس، حيث استكبر عن الحق وقال إن هذا إلا سحر يؤثر. لهذا قال العلي القدير قتل كيف قدر، ولم يقل قتل كيف فكر، فالتفكير كان قلبيا وأوصله إلى حقيقة الدعوة الكامنة في فطرته، وبقلبه أحس حلاوة القرآن وصدقه، لكنه عطل التفكير، ولم يتفاعل به مع التقدير، بل ترك التقدير الدماغي وحده يبت في الأمر، عبر حسابات مادية ضيقة، قادته إلى الكفر.

من هذه الآيات الكريمة، نفهم أن العقل هو تفاعل التفكير القلبي بالتدبير الدماغي، فالتفكير القلبي واسع المدارك، غير محدود، أما التقدير الدماغي فمحدود الإدراك بزمن ومكان محددين لا يتجاوزهما، لهذا أي تفكير قلبي لا بد له من وعاء من التدبير الدماغي، حتى يصبح الأمر ممنطقا وفق الزمان والمكان، الذي يعيشه الدماغ مع محيطه والآخر.

انفصال التفكير عن التقدير في ذوات الإنس.. واقع يعاش

حين البلوغ يصل الطفل ساعة الحسم والتكليف، إنه العقل الأن وقد اكتمل، هناك ظروف مواتية لعمل العقل الآن، هناك فطرة، هناك ذاكرة قلبية، وهناك ذاكرة دماغية، التفاعل بين هذين الاثنين هو العقل بعينه، الدماغ يلتقط أمرا ما بمدركاته ويحلله بذاكرته، يبعثه للقلب على عجل، يفتح مكنوناته الدينية والخلقية والعاطفية تجاه هذا المستجد العاجل.

 

وفي الوقت نفسه يصدر الدماغ تعينه النفس والغرائز، حاجياته ومصالحه المادية، التي قد يستفيد منها الجسد حيال ذلك الطارئ، كل هذه الأمور تتفاعل فيما بينها وإذا توازنت خرجت فكرا معقلنا، وهذا هو تفكير أولي الألباب. فتفكيرهم مواز للدين والدنيا معا، قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ سورة البقرة.

إن علاقة الدماغ بالقلب كما رأينا، علاقة تفاعلية، هي علاقة إن تمت تنتج فكرا عقلانيا، لا اجترارا استذكاريا، أو منطقا حسابيا، لهذا فعلوم اليوم مع تطورها، إلا أنها تتماشى وفق منطق استذكاري حسابي، أكثر منه منطق عقلاني، بمعنى أنها تسير وفق حسابات رياضية، أكثر منها تفاعلات فكرية توازي بين القلب والدماغ حال التقدم. فعلى عكس تقدم النهضة الأوروبية، الذي كانت منطلقاته علمية وفكرية مأخودة من نتاج الحضارة الإسلامية والفلسفية اليونانية، فإن منطلقات تطور اليوم، هي تكنولوجية رقمية في أغلبها، تحاول تعويض التفكير الإنساني الكلاسيكي بآخر صناعي مستحدث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.