شعار قسم مدونات

تركيا.. التعددية السياسية وظهور المجتمع المدني

مدونات - أردوغان

شهدت تركيا منذ أواخر القرن التاسع عشر ظهور كثير من الاتحادات العمالية والهيئات الاجتماعية، والمنظمات، والجمعيات السياسية، كما أن الوقفيات معروفة منذ زمن بعيد عبر التاريخ العثماني، إلا أن بداية العهد الجمهوري شهدت انتكاسة كبيرة للمجتمع المدني الناشئ، نتيجة سيطرة الدولة على كل النشاطات الحياتية، ولم تتح الفرصة للمجتمع المدني بالظهور مجددًا، إلا بعد مرحلة التعددية السياسية، نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين، وقد أثرت الانقلابات العسكرية المتكررة بصورة مباشرة على مؤسسات المجتمع المدني، إلا أن هذه المنظمات شهدت نهوضًا جديدًا بعد انتقال الحكم إلى المدنيين عام 1983م، ضمن البرنامج الإصلاحي الذي تبناه تورغوت أوزال، كما شهد مطلع الألفية الثالثة نموًا مطردًا في عدد هذه المؤسسات، وأعداد المنتسبين لها.

وقد ازداد عدد المنظمات غير الحكومية في تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة مطلع الألفية الجديدة وقد قادت زيادة الوعي الجماهيري بأهمية المجتمع المدني، وانتشار ثقافة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى الإصلاحات القانونية والتشريعية، إلى تزايد مؤسسات المجتمع المدني، وتتركز مؤسسات المجتمع المدني في المدن ذات الوضع التنموي الجيد، وتقل في تلك الأقل حظًا من التنمية، وتتوزع مؤسسات المجتمع المدني بين الاتجاهات القومية واليسارية والإسلامية، إلا أن تنافسًا كبيرًا يدور بين المؤسسات العلمانية والإسلامية في الساحة التركية.

 

الثقافة والحريات
منذ قيام الجمهورية التركية عام 1923 شهدت الحياة السياسية التركية عداءً واضحًا بين الدولة والمجتمع، وحالة من انعدام الثقة، وقد انعكست هذه الحالة عبر نظام بيروقراطي شديد التعقيد

لم يوجد أثر لكتابة تركية إلا بالعثور على مسلات أورخان، التي تعد أبرز أثر تركي مكتوب ولكن في معظم الحالات كان الآخرون هم من يكتب عن الأتراك، كالفرس، والهنود، والصينيين. والمسلات الأورخانية عمومًا لاتبرز الجانب الفلسفي للأمة التركية، بقدر ما تؤرخ لشخصيات بارزة، لكن المسلَّم به لدى الباحثين والمؤرخين أن الترك عبر تاريخهم الطويل تأثروا بالحضارات الأخرى وتعد مركزية الدولة من أبرز الأفكار التي قامت عليها الثقافة السياسية التركية المعاصرة، لا بل تعد هذه المسالة الملمح الرئيس في تلك الثقافة، وبالرغم من إعجاب النخب السياسية التركية بالغرب، إلا أن هنالك تباينًا كبيرًا بين فهم هذه النخب والفهم الغربي للدولة، ففي الوقت الذي تعد فيه التقاليد الغربية أن الدولة وليدة المجتمع المدني، ونتاج من نتاجاته، تنظر النخبة التركية إلى الدولة على أنها كيان فوقي، يسمو على كل الكيانات، بما فيها المجتمع المدني ذاته، ولعل هذا الأمر يفسر محدودية دور مؤسسات المجتمع المدني في بدايات العهد الجمهوري. ومن ملامح الثقافة السياسية التركية المعاصرة هيمنة جزء من النخبة السياسية على الحياة السياسية، عبر تقاليد بيروقراطية معقدة أعاقت التحول الديمقراطي في البلاد مد ة طويلة.
 
وقد سوّغ الجيش تدخله المباشر في الحياة السياسية بحراسة الدولة، بالإضافة إلى التدخل غير المباشر عبر النفوذ والهيمنة، ومنذ قيام الجمهورية التركية عام 1923 شهدت الحياة السياسية التركية عداءً واضحًا بين الدولة والمجتمع، وحالة من انعدام الثقة، وقد انعكست هذه الحالة عبر نظام بيروقراطي شديد التعقيد بالإضافة إلى تقييد الحريات العامة، وانحسار تأثير المجتمع المدني في الحياة السياسية. ويعد التطرف العلماني ملمحًا بارزًا آخر من ملامح الثقافة السياسية التركية، وقد تجلى هذا التطرف في أوضح صوره في مرحلة الجمهوريتين الأولى والثانية، مصطفى كمال، عصمت اينونو، وفي هذه المرحلة هيمنت النخبة الكمالية على القرار السياسي في البلاد، إلا أن السنوات الخمس عشرة الأخيرة، شهدت تراجعًا ملموسًا لدور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، نتيجة للعديد من الإصلاحات القانونية والدستورية. كما أن المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت في شهر تموز عام 2016 وتصد لها الشعب التركي بقوة وحزم انتصارًا تاريخيًا للمجتمع المدني التركي.
 
وفيما يتعلق بحقوق الأقليات في تركيا فإن لهذه المسألة جانبين الأول يتعلق بالأقليات الدينية، والآخر يتعلق بالأقليات العرقية فعلى الصعيد الديني، ينص الدستور على أن حرية الدين والمعتقد مكفولة للجميع، بالإضافة إلى تبني الدولة منهجًا علمانيًا لا يرتبط بأي من الأديان، إلا أن الدستور لا يتناول مسألة الأقليات بنصوص صريحة على اعتبار أن الهوية التركية هي هوية جميع السكان واللغة التركية هي اللغة الرسمية للبلاد، وكانت القوانين التركية تمنع استخدام أية لغة أخرى في التعليم غير اللغة التركية، ووضعت قوانين لتنظيم استخدام اللغات الأجنبية في التعليم، ولكن ومنذ تولي حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002، جرت بعض الإصلاحات القانونية، تسمح للأكراد باستخدام لغتهم في التعليم والتخاطب، وتسمح بالبث التلفزيوني والإذاعي باللغة الكردية، وبخصوص المرأة فقد نص الدستور التركي على أن للرجال والنساء حقوقًا متساوية، ويجب على الدولة ضمان هذه المساواة في الممارسة العملية.
 

الحريات السياسية

 

undefined

 

بدأت تركيا مسيرة الانفتاح الديمقراطي منذ العام 1946، عندما أجريت أول انتخابات تعددية في عهد الجمهورية وتعزز النهج الديمقراطي في البلاد عبر حكومة منبثقة عن أغلبية برلمانية وتعزز مبدأ الحوار بين مكونات الشعب التركي، ومع كل ذلك ظلت العلمانية تسيطر على المشهد السياسي التركي، عبر مؤسسات تجذرت من خل الدستور عام ١٩٨٠، وأبرز تلك المؤسسات المحكمة الدستورية التي كانت تحظى بصلاحيات واسعة في الحياة السياسية قبل التعديلات الدستورية الأخيرة، من بينها حظر الأحزاب السياسية، ومنع العديد من الشخصيات التركية البارزة من ممارسة الأنشطة السياسية، ويبدو أن هذه المحكمة أعدت بعناية للاستغناء بها عن الانقلابات العسكرية التي قام بها الجيش عدة مرات، مما جعله صاحب الدور الأكبر في الحياة السياسية لأن بمقدوره أن يستولي على السلطة في الوقت الذي يراه مناسباً، إضافة إلى وضع الدساتير التي تحدد مسار الدولة.
 
ومع وجود المحكمة الدستورية لم تنته الانقلابات العسكرية، بل استطاع الجيش الإطاحة بحكومة حزب الرفاه عام 1997، ومحاولة الانقلاب على حزب العدالة والتنمية الحاكم عام 2003 والتي لم يكتب لها النجاح، ثم المحاولة الانقلابية الدموية يوم 15 تموز 2016 التي تصدى لها الشعب التركي من كل الاتجاهات السياسية والفكرية وقدموا عشرات الشهداء للحفاظ على الهوية المدنية التي تكرست خلال حقبة العدالة والتنمية، وتشكلت حالة من الإجماع في الأوساط السياسية التركية على ضرورة وضع دستور جديد للبلاد، وقد تم استثمار هذا الاجماع في اقرار تعديلات دستورية حولت نظام الحكم في البلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي وقد سبق للمحكمة الدستورية التركية أن حلت عددًا من الأحزاب، بذريعة مخالفتها للمبادئ العلمانية، كحزب الرفاه، وحزب الفضيلة، وقد بلغ عدد الأحزاب السياسية التي حلتها المحكمة الدستورية التركية ٢٤ حزبًا سياسيًا، تنتمي للاتجاهات الإسلامية والقومية، كما منعت المحكمة ذاتها عددًا من الشخصيات التركية من ممارسة النشاطات السياسية والعامة مدة من الزمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.