شعار قسم مدونات

العدالة الجنائية بين المواثيق الدولية والتشريع الجنائي المغربي (2)

blogs قانون

عطفا على المقال السابق، العدالة الجنائية بين المواثيق الدولية والتشريع الجنائي المغربي، والذي تحدثنا فيه عن العدالة الجنائية في المواثيق الدولية فقط، كان إلزاما علينا أن نتم حديثنا عن الجزء الثاني فيما يتعلق بالعدالة الجنائية في التشريع الجنائي المغربي، إعمالا بالقاعدة التي تقول: من التزم بالشيء لزمه. وعليه سنتحدث في هذا الجزء الأخير، عن مدى ملاءمة التشريع الجنائي المغربي للمواثيق الدولية في مجال العدالة الجنائية.

المطلب الثاني: ملاءمة التشريع الجنائي المغربي للمواثيق الدولية

إن فكرة ملاءمة التشريع الجنائي للمواثيق الدولية في المغرب، انبثقت من الطفرة الكبرى التي عرفها مجال حقوق الإنسان في البلد، والذي يسعى إلى بناء دولة الحق والقانون، قوامها سيادة القانون، وصون حقوق الأفراد، كما أن هاجس توفير المحاكمة العادلة وفق المواثيق الدولية المتعارف عليها، والحفاظ على المصلحة العامة والنظام العام، كان الدافع الأساس إلى تبني المملكة المغربية للمبادئ السامية في مجال حقوق الإنسان، والمحافظة عليها باعتبارها من الثوابت في نظام العدالة الجنائية المعاصرة، ولا سيما ما يتعلق بالمحاكمة العادلة، وعليه قام المشرع الجنائي في المغرب بتحيين النصوص القانونية المتعلقة بالشق المسطري في الدعاوى الجنائية، لضمان حقوق الأفراد أثناء مكوثهم بين يدي العدالة، فما هي مظاهر الملاءمة في التشريع الجنائي المغربي؟ (الفقرة الأولى) وماهي آليات تفعيلها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مظاهر الملاءمة في التشريع الجنائي المغربي

أهم النتائج المترتبة عن مبدأ قرينة البراءة هو عدم التزام المتهم بإثبات براءته، بمعنى لا يلتزم بتقديم الدليل، وإنما يقع عبء الإثبات على سلطة الاتهام بتقديم الأدلة على ثبوت التهم المنسوبة إليه

لتحقيق ملاءمة تتماشى مع مستوى الأنظمة الجنائية الحديثة وما وقف عليه الفقه الجنائي المعاصر منن نظريات حديثة لتطوير أداء العدالة الجنائية، كان إلزاما على المشرع الجنائي مراجعة القانون الجنائي في شقه المسطري، وذلك ما كان بالفعل، عندما تم إقرار قانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، حيث جاء بمبادئ توافق المواثيق الدولية تزكية منه لنظام العدالة الجنائية والمحاكمة العادلة، ومن بين المبادئ الأساسية التي جاء بها، مبدأ قرينة البراءة الذي نصت عليه المادة الأولى من قانون 22.01 (كل متهم أو مشتبه فيه ارتكب جريمة يعتبر بريئا الى أن تثبت ادانته ……).

متن هذه المادة يوحي إلى اعتبار الأصل في المتهم او المشتبه هو البراءة إلى أن تثبت إدانته بحكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به، كما تم التأكيد علي هذا المبدأ في الدستور المغربي في الفقرة الرابعة من الفصل 23 من دستور 2011 بما يلي :(قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان) مما يدل على أن الدولة المغربية تلتزم بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا.

وتجدر الإشارة إلى أهم النتائج المترتبة عن هذا المبدأ، هو عدم التزام المتهم بإثبات براءته، بمعنى لا يلتزم بتقديم الدليل، وإنما يقع عبء الإثبات على سلطة الاتهام بتقديم الأدلة على ثبوت التهم المنسوبة إليه، وهنا يتدخل دور القاضي في مراقبة وسائل الإثبات وتقدير قيمتها، حيث يلزمه القانون بتبرير اقتناعه ضمن حيثيات الحكم الذي يصدره، إلا أنه وفي هذا الحالة، قد يقف القاضي حائرا عندما يعترف المتهم بما نسب إليه عن طريق الإكراه والعنف، والحالة هذه، جاءت الفقرة الثانية من المادة 293 صريحة لا غبار عليها، وصرحت بأنه لا يمكن الاعتداد بالاعتراف المنزوع بالعنف والإكراه، وهو مبدأ كرسته المواثيق الدولية أيضا، ناهيك عن كون القانون الجديد قد نص على خضوع الاعتراف للسلطة التقديرية للقضاء.

وإلى جانب هذا المبدأ، يوجد مبدأ لا يقل أهمية عن السابق، يتجلى في الصلح بين الخصوم، وهو تدبير يقدم حلا وسطا بين قراري الحفظ والمتابعة اللذين تمتلكهما النيابة العامة، لكنه يهم جنحا محددة على سبيل الحصر، ومن سماتها، أن لا تعتبر خطرا على النظام العام، وأن لا يقتصر ضررها على أطرافها الذين يعتبر رضاهم ضروريا لتحقيق المصالحة، إذا، يطول الحديث عن المبادئ التي جاء بها قانون 22.01 لذلك نكتفي بما سبق، فخير الكلام ما قل ودل.

الفقرة الثانية: آليات تحقيق المحاكمة العادلة
يعتبر القضاء أهم آلية لتحقيق المحاكمة العادلة، وتفعيل مبادئ حقوق الإنسان، نظرا لما خوله له القانون من سلط التحري والتحقق من صدق الأدلة وغلطها، فالقضاء له تأثير كبير على ترسيخ مبدأ المحاكمة العادلة، فبقدر ما يكون ناجعا ومتطورا بقدر ما يوفر ثقة كبيرة للمجتمع فيه وللفرد في اللجوء إليه لكي يسترد له حقوقه، و تتجلى نجاعة آلية القضاء في مدى استقلاله وحياده، فاستقلالية القاضي في عمله، يعطي صورة مباشرة للمتقاضي لمعرفة مدى نزاهته و حياده، إذ، يعتبر استقلال السلطة القضائية مبدء عالميا نصت عليه مختلف الاتفاقيات و المواثيق الدولية، والمغرب بدوره لحق بالركب العالمي لتكريس هذا المبدأ، وهو ما يزكيه فصل 107 من دستور 2011.

لذلك يعتبر أي تدخل في أعماله مساسا باستقلاله وفعلا معاقبا عليه، مع منع القضاة وهم يمارسون مهامهم من تلقي أي أوامر أو تعليمات، ومن الخضوع لأي ضغوط كيفما كان شكلها أو مصدرها، وألزمهم بإحالة كل تهديد لاستقلالهم على المجلس الأعلى للسلطة القضائية تحت طائلة المساءلة والعقاب.

إحساس المجتمع بالثقة في المؤسسة القضائية رهين بإصلاحها وإبعادها عن أي تدخل خارجي، والذي يمكن أن يضر بحقوق الناس وحرياتهم
إحساس المجتمع بالثقة في المؤسسة القضائية رهين بإصلاحها وإبعادها عن أي تدخل خارجي، والذي يمكن أن يضر بحقوق الناس وحرياتهم
 

فترسيخا لمبدأ استقلال القضاء، سارع المغرب إلى نقل سلطة رئاسة النيابة العامة من وزارة العدل المنتمية للسلطة التنفيذية، إلى محكمة النقض المغربية المنتمية للسلطة القضائية، انسجاما مع المعايير والمواثيق الدولية بخصوص استقلال السلطة القضائية التي تفرض على الدولة أن تكفل استقلالها مؤسساتيا وماليا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتلزم القضاء بالبت في القضايا المعروضة عليه وفقا للقانون دون تحيز، وبعيدا عن أي قيود أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات.

والمقصود باستقلال السلطة القضائية ليس فقط قضاة الأحكام، بل المقصود حتى قضاة النيابة العامة، بحيث إن المشرع الدستوري أوكل لقضاة النيابة العامة السهر على التطبيق السليم للقانون ترسيخا للعدالة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد. علما أن إحساس المجتمع بالثقة في المؤسسة القضائية رهين بإصلاحها وإبعادها عن أي تدخل خارجي، والذي يمكن أن يضر بحقوق الناس وحرياتهم، وبالتالي فإن ذلك لن يتأتى إلا بإرادة حقيقية وواعية بأن استقلال السلطة القضائية هو من بين الخطوات لبناء دولة الحق والقانون، قوامها سيادة القانون.

خاتمة

بعد هذه الجولة المتواضعة على بعض أهم معايير المحاكمة العادلة في المواثيق الدولية والتقنين المغربي، تبقى هناك تحديات تواجه تنزيلها على أرض الواقع، من قبيل ظهور جرائم لم يعتد عليها المجتمع الدولي كالإرهاب والجريمة الإلكترونية، وغيرها من التحديات والعراقيل التي تقف حاجزا منيعا لتفعيلها. من نافلة القول: بهذا نكون قد استعرضنا على استحياء وبشكل وجيز بعض معايير العدالة الجنائية في المواثيق الدولية والتشريع الجنائي المغربي، وركزنا على مصادر تلك المعايير سواء القانونية منها أو الاتفاقية أو غيرها، دون الغوص في التحليل، تاركين ذلك لأهل الحل والعقد في هذا المجال، لأنه لا يمكن الإحاطة بها سوى من أقلام أهل التخصص في الميدان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
* قانون المسطرة الجنائية المغربية وفق آخر التعديلات الطبعة الخامسة 2016.
* شرح قانون المسطرة الجنائية وفق القانون رقم 22.01 للدكتور: محمد الداكي وعلاء عمر عواد خلايلة طبعة 2017.
* شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية ج الأول للدكتور: عبد الواحد العلمي.
* ضمانات المتهم وحقوق الدفاع خلال مرحلة التحقيق الإعدادي للدكتور: جمال سرحان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.