شعار قسم مدونات

أمي.. وجودها هو الحياة

blogs الأم ، الأمومة

تتهافت في الواحدِ والعشرين من آذار، الكثير من المعايدات والتهاني بمناسبة عيد الأم السنوي، تلك المناسبة التي اختلقها البعض لغض الطرف عن استحضار فضائل الأم في كل لحظٍة وفي كل ساعة، فكيف لنا أن نحصر مكارمها وشكرها ليومٍ واحد؟! ألم تستشعر في الدنيا سلام بقربها، أو ليست الجنة محرمة على من لم يبرّ بها، أوَ ليست الدنيا هزيلة بدونها، هل تساءلت مرّة ماذا تعني الأم، وكيف تصير الحياة بدونها؟

لربما كان عيد الأم توقيت يُذكرنا بأنّ لها علينا حق، ولربما غفلت يوماً عن تقبيل يداها، وعن قول كلمة شكر لجزيل عطاءها، لكنّي أبداً لم أغفل عن ذكرها وأنا بين يدي خالقي، في كل نجاح أناله وفي كل طرف حبٍ وحياة أتذكر أنّي لازلتُ حيّاً، فقط لأنّي بقربها، أتذكر مراراً أن أشكر الإله على عطيته وقد سخرها سبباً لهنائي حتى في عبادتي كانت مربيتي، صلواتي وقرآني، كانت معي اُمي، فكيف للجوارح أن لا تبرّ وتذكرها في حضرة الرحمن، وكلّما رأيتها وتحسست بذلها وسعيها متفانية لأجل أولادها، رتلتُ همساً بقلبي "رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"، وكان لها الفضل في كلّ خيرٍ أوتيته، في كل علمٍ جنيته، وفي كل صلاة أقمتها وآية رتلتها.

أتذكر عندما كنتُ صغيرةٍ لطالما هممت أراقبها، أتطلّع لِأَن أكون مثلها، لا أدري كَمُّ الكلمات التي ستنضب وتنضب في روضِ الحديث عن أمي، تلك المرأة التي تكافح مُرّ الأيام بحثاً عن ملجأ يأَمن أولادها من كل سوء وأذى، تلك المرأة التي تجاوزت مكارمها كل النساء، فعجباً لمن يغفل عن شكر أمه وعن البذل لأجل قطمير من صنائعها، هل تعلم أنّ هناك الكثير ممن يرجوا أن يعود به الزمن لحظاً لتُغفر خطاياه بتقبيل رأسها، بشكرها والإحسان إليها، هل تفكرّت يوماً كيف مرّت السنين حتى شببت ونِلْتَ.

هل نستطيع استحضار معاناة الأم لأجلنا، كم لاقت وعانت، كم سهرت لراحتنا، أم أننا سننتظر حتى نصير أمهات لندرك معنى الأمومة؟!
هل نستطيع استحضار معاناة الأم لأجلنا، كم لاقت وعانت، كم سهرت لراحتنا، أم أننا سننتظر حتى نصير أمهات لندرك معنى الأمومة؟!
 

يوم رحل أبي ظننت أنّ الحياة ستتوقف، وأنّ الدنيا ستكون عصيّةً لا راحة فيها، لكنّها كانت هنا ولازالت، أمي لم تتخلى يوماً عنّا، وكانت السند والمأمن في كل حين، تستجمع جلّ طاقتها، لتمنحنا من الحُبّ والأمان ما يروي الفؤاد، وأستحضر بنفسي قوله تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"، فأرتل آيات الشكرِ مراراً دون أن يكلأ رمقي، وتستحضر ذاكرتي مشاهداً لأمي، حينما كانت حريصة على برّها والدتها تزورها في كل حين، تتسابق لكسب رضاها، ويتفاقم فيّا قدر الحب والتقديرِ.

يطول الحديث عنها، وعن تلك الفروق بينها وغيرها من نساء الأرض، تلك المعاناة التي أرّقت جفنيها، تلك الأم التي ودعّت بكرها على أمل أن يرجع وتقيم له عرساً وتهنأ، كان خاطباً حينما ذهب للحرم الجامعي ليقدم اختباراته النصفية، مودعاً والدته التي لا زالت تنتظر ميعاده، كان اليوم الأخير وبعدها لم تسمع له إنساً، حينها رأيتُ يعقوب في جلادتها، وبشرى عودة يوسف لا زالت ترافقها، منذ أربع سنوات تائهة تبحث عنه، مشتتة بين غائبها ومن حولها، ذلك الغائب الذي لا تدري عنه أهو حيٌّ أم؟ الحزن يقتلع أشجانها، أوّ تدري شعوري تجاه حزنها، أمّي كوني بخيرٍ لأجل أن نقوى بسعادتكِ، تلك الأم التي تلا فقدها ابنها بنبأ استشهاد زوجها، وتركها وحيدة تصارع خيبات الزمن تلك الأم التي ذاقت ولّات الحرب، ولاذت بها الويلات، ماذا عسانا أن نقول في سبيل تقديرها؟!

هل نستطيع استحضار معاناتها لأجلنا، كم لاقت وعانت، كم سهرت لراحتنا، هل سننتظر حتى نصير أمهات لندرك معنى الأمومة، أو آباء لندرك حقهما علينا، كم مرّة كنتَ فظاً في حديثك ولم تزل عن مكانك في قلبها، كم مرّة عييت وكانت لمستها شفاءها، ولازالت رَغمَ كل جراحها، شامخة قوية بوجه عصبات الزمن، تكافح لأجل ولدانها، فكيف ننأى عن إرضائها وطاعتها، ووصيّة نبينا "أمُّكَ ثمّ أُمّك ثمّ أمُكَ…". فلا تسمح لهذا اليوم أن يكون فاصلاً لحبها، دع الأيام كلها تشهد لك لا عليك، دع دعائك لحضرتها، وتذكر أنها منبع قُوتِك وقُوَّتِكَ، هي أمّك سِرُّ الحياة التي أوتيتها، ومأمنك في الدارين، وخير ما استوصانا به نبينا، هي ثورتنا على هذه الحياة، وقوتنا عندما تنأى بنا الأيام، يا نعمة أثابنا إياها الإله، أدامكِ لنا خير نعمة وخير سؤال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.