شعار قسم مدونات

آغورا المؤنث

blogs السفسطائيون

تلبستها منذ زمن حمى ملاحقة كل ما يمت لنون النسوة بصلة، ليس اصطفافا جندريا أو نوعيا بقدر ما هو تواطؤ إنساني بصيغة المؤنث، انتصار لذلك الشق الإنساني الذي يسقط في كل مرة -سهوا أو عمدا- من سجلات التاريخ.

وجدت نفسها واقفة على أعتاب آغوراهن خجلى في تردد، فلا زاد يسعفها؛ ليسعها أحد أركانها، وليست بوزن فاعلاتها، غير أن الشارة العريضة المثبتة بإحكام على مدخل الآغورا أغرتها بالمجازفة، دلفت ممنية نفسها، على الأقل، بشهوة المشاهدة. احتوت الشارة معنى مهادنا جامحا، بسيطا عميقا، يليق حتما باللواتي صُغنه، فحواها "هنا لست بحاجة للتخفف من فائض عاطفتك ليثبت لك الحق النسائي في التعقل، ولا مداراة ذكائك ليسعك وصف المؤنث" راقها هذا الكوجيتو الأنثوي المتواطئ، فاستجمعت شجاعتها ودخلت الآغورا على استحياء.

لاح لها على يمينها مباشرة مجلس فخم أنيق، لا شأن لقاطناته سوى تطويع تاء اللغة العاصية وتقليبها وما يشتهينه من أغراض؛ لردها لبيت طاعة المؤنث.
 

أنا والله أصلح للمعالي .. وأمشي مشيتي وأتيه تيها

تنشد جدتها الأندلسية المتربعة على عرش الحرف والكلمة، تجيبها أخرى بنبرة حزن خُناسي معتق قائلة:

أرى الدهر أفنى معشري وبني أبي .. .فأمسيت لا يجف بكائيا

كانت حلقة الآغورا الكبرى شبه ممتلئة بأخريات عديدات من اللواتي تم إيهامهن أنهن لا يستطعن التعقل، إنه نشاط رجالي محض فلا تحاولن

تعود تطربهن تلك الأخيلية الفصيحة فخرا قائلة:

نحن الأخايل ما يزال غلامنا .. حتى يدب على العصا مذكورا

أسرتها سطوة هذا الإفصاح المؤنث الجميل، لبثت مليا متأملة في هذه الذوات الجسورة حد رفع قدسية المذكر عن اللغة، حد التشكيك في فحولتها-أو هلوكستيتها-، واستعادة وجودهن المنفي من عالم الحرف وفعاليتهن اللغوية المسلوبة.

تساءلت، أكن حقا واعيات وهن يستجمعن سطوة نونهن المحشورة في حيز "المنع من الصرف الإبداعي واللغوي" هول المجازفة وخطورة السير في حقل ألغام اللغة المذكرة؟ لكن يكفيهن شرفا أنهن جازفن.. نعم يكفيهن ذلك شرفا.. أردفت مجيبة نفسها بعدما احتارت في تقليب ما ورد على ذهنها من وابل الأجوبة.

شدها من جديد شغف افتحاص أركان آغوراهن فمضت لوجهة أخرى، وجدت نفسها هذه المرة محاطة بشكل جيد تماما، كان مجلسا توسطت غرته سيدة تعلوها أمارات الحصافة والرزانة، لن يخطئ من يلمحها لأول وهلة أنها خلقت لتحكم، يقال لها "بلقيس"، لا تقضي أمرا دون إشهاد صويحباتها، إنها قاعدتها الكبرى التي لا تخونها أبدا.

تفصح هيئة ذوات شيعتها أنهن لا يقلن عنها حذاقة وحكمة وحزما، عن يمينها تجلس تلك التدمُرية الآسرة "زنوبيا"، لها من الحضور سطوته و بهاؤه، ومن الحديث مختصره ومفيدة، تليها في المجلس شجرة درٍّ وارفة الذكاء والدهاء، تتكئ على تلك الخيزرانة العباسية اللبيبة الأريبة، بدا المكان مزدحما بشكل جميل بأخريات، "عليسة"، "راضية"، "النفزاوية"، "أروى" وغيرهن من اللواتي جمُحن عن المقام في الظل والهامش، فاشرأبت أعنق طموحهن السياسي معلنة تجاوز عتبة الخاص، رفع الحجاب القاتم الذي ضرب على صوتهن وحرمه الوضوح، لقد قررن الانوجاد في صدر ذلك العالم المفتوح، المدعو "سياسة"، الذي نُفين منه لوقت معتبر، فكان لهن ذلك.

مضت من جديد على مضض.. لوهلة انتابتها حالة تعجب غريب عندما شرُفت على الساحة الرئيسة للآغورا من هول رحابتها وشساعتها، كان عليها أن تقترب أكثر لتدري الخبر.. بدا المكان وكأنه قلب الآغورا وروحها، حالة واحدة تتلبس قاطنات هذا الركن الفسيح، استشكال كل شيء، فحصه، وتعريضه لمحك النظر، هنا لا شيء يسلم من المساءلة، وعلى من ترغب أن تجد لها مكانا بينهن أن ترضى بالعقل عاصما من الزلل، وتتوسل بالاستدلال منهجا في الادعاء والاعتراض.

 كان مجلسا توسطت غرته سيدة تعلوها أمارات الحصافة والرزانة، لن يخطئ من يلمحها لأول وهلة أنها خلقت لتحكم، يقال لها
 كان مجلسا توسطت غرته سيدة تعلوها أمارات الحصافة والرزانة، لن يخطئ من يلمحها لأول وهلة أنها خلقت لتحكم، يقال لها "بلقيس"
 

لمحت لفيفا من أولئك الفيثاغوريات المتفلسفات "ميا"، و "ارينجوت" وأخريات من اللواتي امتثلن لأمر أمهن "ثيانو"؛ إذ تدعوهن للتفكير والتفلسف. انتهى إلى سمعها طرف من حوارهن حول تفسير نشأة الأشياء من العدد، وفكرة الهرمونيا في الكون وغيرها من المواضيع. راقها حديثهن الشيق، لكن كان عليها أن تمضي حتى تسمع للحكيمة "ديوتيما" بطلة محاورة المأدبة، وهي تعرض نظريتها الفريدة في الحب وتستفيض في بيان منشئه وغاياته. لم يفتها وهي في طريقها الإصغاء لمعلمة البيان وفن الخطابة "اسبازيا" وهي تلقي خطابها القوي في أسلوب رشيق أنيق.

وليس ببعيد عنها، تجلس أسطورة الإسكندرية العظيمة وفيلسوفتها البارعة "هيباتيا"، في هيئة مهيبة تقدم شروحاتها الفذة في الفلك، الرياضيات، المنطق، والفلسفة، وقد تحلقت حولها كوكبة من محبات حكمتها اللواتي حججن إلى مجلسها من بعيد.

كانت حلقة الآغورا الكبرى شبه ممتلئة بأخريات عديدات من اللواتي تم إيهامهن أنهن لا يستطعن التعقل، إنه نشاط رجالي محض فلا تحاولن. لكنهن تساءلن: إذا كنا حقا غير عاقلات، فماذا نصنع بما يظهر فينا من عقل؟ ماذا نفعل بهذا الاستعداد الفطري الذي يلوح فينا للتفكير ببله التفلسف؟

قد أجزم أن معظمهن تساءلن على هذا النحو عندما بدأن، استشكلن ذواتهن وجعلنها موضوعا لهن قبل أي شيء. كان عليهن أن يحسمن في هذا الأمر، وإن على عجل، قبل أن يخرجن عن صمتهن العقلي، ويجرؤن على التعقل لكن بصوت جهور. غادرت الآغورا لكنها، حتما، لم تغادر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.