شعار قسم مدونات

في عيد الأم.. أنا مَدِينٌ لأمّي بالحياة

blogs الأمومة

مرَّتْ ستُّ سنواتٍ على ذلك اليوم، حين راقبتُ هاتف بيتنا ليأتي بخبر نجاح عملية أمي الجراحية في الفقرة الخامسة من العمود الفقري، انتظرتُ ساعتين (كانتا زمن إجراء العملية) كأنهما دهرٌ كاملٌ حتى جاءني أخيرًا صوت أبي عبر الهاتف قُبيل أذان الظهر بدقائق: لقد نجحتْ العملية يا بنيّ.. اطمئن، أمكَ بخيرٍ الآن.

كان أبي يُدركُ تمامًا قيمة غياب الأم _ولو بشكلٍ مؤقتٍ_ عن أسرةٍ لا تعرف معنىً للحياة إلا بها، فحرص أشد الحرص أن يزفّ إلينا ما يبعث في دواخلنا بالطمأنينة عندما تجاوزت أمي مرحلة الخطر، ولعله ازداد إدراكًا من ذلك حين رجع من القاهرة فوجدني قد حوّلتُ ساحة بيتنا بإهمالي إلى مستودعٍ ضخمٍ من المخلفات ومُدوّنًا على الكَرّاسة الصفراء الخاصة بمادة الكيمياء عبارتي التي ظّلت تلازمني إلى اليوم: الوطن أمي.. وأنا من دونها مُغتربٌ أعمى. كانتْ أمي ولا تزال الركن الأمين في بيتنا، نلجأ إليها لإفراغ ما يعتمل في صدورنا من همٍّ، وننثر على مسامعها شكوانا والضجر، ونحكي لها مالا يعرفه عنّا غيرها من العالمين.

 

أمي، الكلمةُ الخالدةُ من زمانٍ قديمٍ بداخلي، والمعنى المستقر في فؤادي حين أصابني الإغماء المفاجئ لأول مرة في حياتي قبل أن أستعيد وعيي مرة أخرى.. بين يديها! أمي، الحبل الموصول دائمًا بيني وبين السماء، في برّها أشعر بالأرض مُنبسطةً تحت قدميَّ تسألني ما أريد فتستجيب، وفي عقوقها تنضب بحار الخير على حين غفلةٍ فتُمسي الدنيا سوادًا قاتمًا. أمي، النكهة الأجمل من حزم الأب ودفء الأخ ووفاء الحبيب وسحر الصديق، الجبل القائم لأتوكأ عليه في مُعتركٍ بائسٍ وأهش بصحبته على مآرب أحزاني وأوجاعي وخيباتي مريرة التكرار. 

تحوّلتُ بين يدي أمي من رضيعٍ تُسكتُه جرعة من اللبن المخلوط بماء الحب، إلى طفلٍ هادئ الطّباع واسع الفهم، إلى صبيٍ مُطيعٍ يحفظ القرآن حفظ المُتقِنين، إلى شابٍ مُشاكسٍ ناقمٍ على كل شيء وساخطٍ على الحياة وإن افتُرِشتْ ورودًا لتحيتي. في طفولتي علمتني أمي كما علّمها أبوها أن العلم سيد الفضائل، وأن الأخلاق حارس العلم وسيّده، فدفعتْ بي دفعًا إلى كُتّاب القرية جوار مدرستي الابتدائية ولم أكذبها خبرًا، أتممتُ حفظ القرآن الكريم بينما لم أتجاوز العاشرة بعد.. وحصدتُ المرتبة الأولى بين أقراني على الدوام، ولعلّني عدلتُ عن تحويل مساري قبل عامين من الهندسة إلى الآداب حين احتضنتني ثم قالت بينما تغالبها الدموع: إن هذا حلمكَ وحلمي، لا تجعل لليأس نصيبًا فيه.. حافظ عليه ولا تنسَه ما حييتَ.

يأتي آذار بنكهة الحب وتحفّنا ملائكة الرحمة؛ فقط لأننا قررنا منح نساء العالم يومًا في هذا الشهر يوافق فلكيًا بداية الربيع
يأتي آذار بنكهة الحب وتحفّنا ملائكة الرحمة؛ فقط لأننا قررنا منح نساء العالم يومًا في هذا الشهر يوافق فلكيًا بداية الربيع
 

في استهلالة الربيع من كل عامٍ يأتينا عيد الأم، الذكرى السنوية لأول هدية أهديتُ أمي إيّاها حين كنتُ طفلًا صغيرًا، دخلتُ عليها ذات مرةٍ وبين يدي علبةٌ من الحلويات، قالت: ما هذا؟ أجبتُ بتلقائية طفلٍ: هذه لكِ.. لكِ وفقط، لا تُعطي أحدًا منها شيئًا، كان اعترافًا ضمنيًا مني بما تبذله لنا على حساب نفسها، ولتستمرَّ حلقاتُ عطائها اللامحدود أعطتْنا العلبة كاملةً دون أن تأخذ منها قطعةً واحدةً !الحادي والعشرون من مارس أيضًا، الذكرى السنوية لأول حفلةٍ غنّيتُ فيها أمام الجميع في احتفالٍ صغيرٍ نظمتُه مدرستنا في عيد الأم، وكانت أمي بين الحاضرين.. بل كل الحضور.

في غربتي الحالية عن مسقط رأسي للدراسة أرى أمي في كل خطواتي وأفعالي وأحوالي، حين يأتي موعد غسل الملابس أذكرها، وحين يصعب عليّ طهي طعامي أذكرها، وحين أصحو متأخرًا لأن رنين هاتفي كان متكاسلًا أذكرها، وحين تحاربني هموم ما بعد منتصف الليل أذكرها، وحين تشدو فايزة أحمد (ست الحبايب) أذكرها، وحين تداهمني ذكريات خيبتي الوحيدة في الحب أذكرها، في صحوي أذكرها.. وفي منامي أذكرها، وحين قتلني الشوق إليها في ثنايا غربتي كتبتُ على باب غرفتي: هنا يسكن من أتعبه الغياب. في عيد الأم من كل عامٍ، يأتي آذار بنكهة الحب وتحفّنا ملائكة الرحمة؛ فقط لأننا قررنا منح نساء العالم يومًا في هذا الشهر يوافق فلكيًا بداية الربيع، فما بالكم إذا خصّصنا كل أيام الدهر لنبذل الغالي والنفيس؛ سعيًا لإرضائهنّ وبرّهنّ والاحتفاء بهنّ!

ماذا لو سألتَ نفسك كل يومٍ: ماذا قدّمتُ لأمي اليوم؟ هل ستخسر شيئًا لو سألتَ نفسكَ في صبيحة كل يومٍ: كيف أكون بارًّا بأمي اليوم؟ لن تخسر شيئًا على الإطلاق، بل سيفيض العالم بالمودة والرحمة التي قُتِلتْ بقتل برّنا لمَنْ عرفنا أنّ تحت أقدامهنّ طوق النجاة ومفاتيح الجنان. في عيد الأم، رجاءً، لا تخبروا أمي أنني كتبتُ مقالًا حاولتُ فيه أن أوفّيها شكرها ولم أستطع؛ لأن ثمانيةً وعشرين حرفًا هي حروف العربية لم تكن كافيةً لأجل هذا الغرض.. ولأنني نسيتُ أن أخبركم أنّ أمي أمّيّةٌ لا تقرأ ولا تكتب! أخبروها فقط أنّي مَدينٌ لها بالحياة.. وكل شيء، حتمًا ستعرف بفؤادها ما أردتُ قوله بين ثنايا هذه الكلمات؛ لأنها أمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.