شعار قسم مدونات

ستيفن هوكينغ.. العالم الذي أحرجنا حيًا وميتًا

مدونات - هوكينغ

شهد يوم 14 (آذار/مارس) فصلًا آخر من فصول السجال حول فكرة تعارض الدين والعلم، فكرة لا تلبث كثيرًا إلا وتطفوا على السطح، بسبب أحداث علمية وأخرى لا علاقة لها لا بالعلم ولا بالدين، إنما هي امتداد طبيعي لضغط سياسي واجتماعي تغذيه ثارات الماضي أو الحنين إليه أحيانًا، بينما يظل غياب الحوار المؤسس على قواعد سليمة يستلهم فيها كل طرف المنطق والحجة والبرهان في دفاعه عن أطروحته دون اقتحام مساحة الطرف الآخر عن جهالة ودون وعي هو السبب الرئيسي الذي يحول بيننا وبين خلق رؤية تنقلنا من ضيق التعارض إلى سعة التكامل بين العلم والدين.

 

وقبل بسط الحديث عن فكرة التكامل بين العلم والدين لا بد من وضع بعض النقاط على الحروف التي خطها المتخاصمون في ستيفن هوكينغ وأطروحاته، لتكون المنطلق لحديثنا. ليت المتخاصمين في الرجل تركوا شخصه ومعتقده جانبًا والتفتوا إلى إرث الرجل وما خلفه من منجزات علمية بدل الخوض في مسائل ليست من صلاحيات أحد إلا إذا كان مفوضًا من الله بمنح صكوك الغفران لخلقه.

 
الرجل أثبت رغم دائه وضعفه أنه عالم فذ ومثال يقتدى به في الصبر والمثابرة وتحدي الظروف، وبدل الركون والاستسلام اعتمد على نفسه وأبدى وجهة نظره بكل موضوعية وفق ما توفر لديه من معطيات علمية لم يفهم غيرها ولم يتعصب لها ولم يلزم غيره بها، والأهم من كل هذا أن رأيه لم يكن نهائيًا أو مستقلًا عن المعطيات العلمية التي توصل إليها، الرجل بنى إلحاده أو لا أدريته على معطيات علمية كان يعلم أنها قابلة للتغير أو التطور على حسب الجهود البحثية المبذولة، الرجل لم يكتف بما وجد عليه آباءه وأجداده بل سلك سبيل البحث والتقصي بنفسه ولم يحاول فرض نتائجه وقناعاته بسفك الدماء وانتهاك الأعراض، مثل ما يفعل البعض، الرجل ظلم حيًا وميتًا فبين المتعاطفين معه والحاقدين عليه غيبت حقائق أفنى حياته لأجلها.

 

الدين والعلم في نهاية المطاف وجهان لعملة الإيمان الموحدة ولا يمكن أن تجمعهما علاقة التضاد إلا إذا شوهنا غايات ومقاصد أحدهما بأن نجعله يقتحم مساحة الآخر ويستلب أدواته

الرجل سلك أوعر الطرق وأكثرها عناءً لأجل الوصول إلى الحقيقة غير أن الأجل حال بينه وبين ما يريد، فبينما حمل المؤمنون كتاب الله المسطور بين أكفهم تعصبًا، فضل ستيفن هوكينغ القراءة في كتاب الله المنظور عله يجد في أسراره وخباياه إجابات عن تساؤلاته، ليتنا نفهم أن طريق العلم وطريق الدين كلاهما يؤدي إلى الإيمان بالله على أن الأول وعر طويل محفوف بالمخاطر والعقل هو دليله فيه، أما الثاني فسهل بسيط والقلب فيه هو الدليل، ولا يلام المرء إن اختيار أحد الطريقين دون الآخر إن كانت غايته البحث عن الحقيقة، على أن التكامل بين الطريقين هو الأصلح والأولى في زماننا وفي كل منهما معالم تحيل على الآخر "وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"؛ وهذا الانتقال بين العلمي والديني لا يكون إلا وفق ضوابط يتحدد معها الفرق بين المطلق والنسبي؛ الثابت والمتغير في كل من الدين والعلم، فثبات نصوص الدين يقابلها حركية ومرونة في معانيها ليكون النص الديني صالحًا لكل زمان ومكان، وليكون للاجتهاد والتجديد غاية ومعنى.

 

وبالمقابل نجد أن العلم يحاول تفسير حقائق ثابتة متمثلة في الكون وظواهره بنظريات قابلة للتغير تبعًا لتغير المعطيات العلمية التي قامت عليها، وعليه فمشكلة التعارض الظاهر بين العلم والدين مردها إلى التعارض بين النظريات العلمية المفسرة للحقائق الكونية وبين التأويل والتفسير البشري للنصوص الإلهية التي تحدثت عن تلك الحقائق ولم تُفصل ولم تَفصل فيها، وهذا ما يدفعنا للقول بأننا أمام تعارض ظاهري للمتغيرات الناتجة أساسًا عن الرؤية البشرية، أما الثوابت الدينية والحقائق العلمية فلا تعارض بينها، فالخلق كحقيقة نراها ماثلة أمامنا اليوم يقر بها العلم ويعطيها تفسيرًا بيولوجيا تطوريًا وفق ما لديه من معطيات علمية تمامًا كما يعطي لنشأة الكون تفسيرًا قائمًا على معطيات علمية أفرزت لنا نظرية التطور ونظرية الانفجار العظيم اللتان هما مجرد محاولة لفهم حقيقة نشأة وتطور الكون، وبالمقابل نجد القرآن يصب في هذا الاتجاه إذ يقول الله سبحانه وتعالى "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فالآية نصت على ضرورة البحث والنظر في الأرض للوصول إلى إجابات عن نشأة وتكون الحياة، ولا يهم هنا إن أصبت أم أخطأت ما دمت في بحث مستمر عن الحقائق التي ستوصلك حتمًا إلى الإيمان، وهذا ما ذهب إلية الدكتور مصطفى محمود.

 

  

فالقرآن أشار في أكثر من موضع إلى حقائق علمية من قبيل الخلق ونشأة الكون "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُمِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".. لكنه لم يسهب في تبيان آلية نشأتها أو تكونها ولم يعط لها تفسيرًا نهائيًا بل ترك الأمر لعباده وحثهم على النظر فيها والتأمل والتدبر، آخذين معهم بالأسباب والأدوات، لأنه باب من أبواب الإيمان، ولعل في هذا أبلغ دليل على أن القرآن أسمى من أن ينصرف إلى المادة فيجعلها محور حديث وأساس رسالة أريد لها أن تكون الأخيرة للناس جميعًا.

 
وإني لأعجب بعد هذا مما أجده عند بعض المتحدثين باسم الدين الذين حولوا القرآن من منهج حياة يسموا بالروح ويضع عنها قيود المادة، ويضبط سلوك البشر جميعًا بما فيه الصلاح والفلاح، إلى كتاب علوم أو كتاب فيزياء، فيحملون القرآن ما لا يحتمل ويقيدونه بقيود المادية وهم في ذلك يضرون به من حيث قدروا أنهم يخدمونه، والله المستعان على ما يصفون.

  
الدين والعلم في نهاية المطاف وجهان لعملة الإيمان الموحدة ولا يمكن أن تجمعهما علاقة التضاد إلا إذا شوهنا غايات ومقاصد أحدهما بأن نجعله يقتحم مساحة الآخر ويستلب أدواته، فدور الدين هو توضيح غايات ومقاصد وجودنا البشري المتمثل في عمارة الأرض، أما العلم فدوره يقتصر على إمدادنا بالوسائل اللازمة لنعمر أرضنا ونفهم أكثر الغاية من وجودنا ونزداد قربًا من ربنا الذي قال في محكم تنزيله "وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْد حِين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.