تلك الدعوات والشعارات كان تخاطب العاطفة عند أبناء الأمة، والعاطفة رغم مكانتها لا يمكن أنن تؤسس لمشروع يعيد الأمة لطريقها الحضاري. فلا بد من دعوة متزنة، تخاطب العقل والروح معًا، تعطي المجال الفكري حقه الكامل قبل الشروع في العمل الميداني. قد يكون سبب ذلك أن الإسلام مستقر في نفوس المسلمين إلى حد كبير، مما دفع العاملين للإسلام تجاوز الإطار النظري الفكري إلى الإطار العملي وبتحفيز العواطف، وذلك بظن منهم أنه لا حاجة لتأسيس فكري ما دام الإيمان مستقر عند المسلمين.
جاء الإسلام وحرر العرب وجعل لهم شوكة وكيان يحفظهم بل ويدفعهم لينافسوا الأمم الأخرى بإنتاج حضارة عريقة لها مكانتها في التاريخ الإنساني |
في هذه التدوينة أحاول فهم واكتشاف الأسباب التاريخية والاجتماعية وخصائص الإسلام الفكرية التي تجعل نهضة العرب الحضارية محصورة باتباع الإسلام.
كان التجمعات العربية الكبرى تسكن في اليمن، العراق والشام وكان حُكّام هذه المناطق يطلقون على أنفسهم ملوك العرب – أي سائر العرب في الجزيرة العربية – وفي ذات الوقت يوالي كل طرف منهم إحدى الإمبراطوريات، فكان يطلق المؤرخون على المناذرة تسمية عرب فارس، ويطلقون على الغساسنة تسمية عرب الروم. هذا دليل على تبعية العرب وعدم استقلال قرارهم السياسي، والتاريخ المعاصر يثبت هذه النظرية عند القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، فثمة ترتيب قبلي يحفظ توازن القوى داخل منطقة جغرافية محددة، فتحكم المنطقة أكثر القبائل الفاعلة والمهيمنة، لكن هذه القبيلة كانت تتعاقد مع قوى خارجية أكبر منها فتسمى "القبيلة الكبرى" – أي الطرف القوي الذي يحمي تحالف قبائل معينة. تمثل ذلك بالبريطانيين فترة الانتداب، واليوم يتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية إلى حد ما.
سبب ذلك ضعف الأنا الجماعية عند العرب، وعدم تحررهم الداخلي. فكانوا على الدوام يحافظون على التبعية الولاء لقوى عالمية، شرقية كانت أم غربية. جاء الإسلام وحرر العرب وجعل لهم شوكة وكيان يحفظهم بل ويدفعهم لينافسوا الأمم الأخرى بإنتاج حضارة عريقة لها مكانتها في التاريخ الإنساني ككل، وسقوط مؤسسة الخلافة كشف عورات العرب فعادت نفس الإشكالية التي كانت عند قبائل العرب قبل الإسلام وظهرت من جديد في شبه الجزيرة العربية، فالتبعية الولاء لا يكون إلا بغياب الإسلام.
فعند العرب الأوائل ظهر المفعول المعنوي للإسلام، فصار عند العربي عزة نفس، وعند اللاحقين كشف عورتهم عندما سقطت الخلافة التي كانت تحفظ للعرب كيانهم السياسي في الأرض. فتنزل رسالة الإسلام في الجزيرة العربية جاءت لعدة أسباب وحكم، منها الفراغ السياسي التاريخي كما يصف الدكتور محمد المختار الشنقيطي. ذلك الفراغ الذي تلاءم وطبيعة الرسالة الشمولية الوسطية للإسلام.
ثمة خصائص فريدة جعلت من الإسلام الدين الذي يجعل للعرب حضارة، هنا سأعرض الجوانب المميزة في تفاعل الإسلام مع العرب. يتميز الدين الإسلامي بشموليته ووسطيته، كذلك يتميز بعالميته ومحافظته على القُطرية ومن غير أن يهدمها، كما أنه يوازن بين المعنوي والمادي، والمثالي والواقعي، إلا أن هذه الخصائص تجعل منه الدين الأنسب للبشرية كافة، ومهمتنا استعراض الميزات التي خُصت للعرب.
لم يهدم الإسلام الوعي الجمعي التاريخي للعرب، بل جاء مقومًا له. من تعظيم الكعبة وحفظ الشعائر كالحج، وإحياء جذور دين سيدنا إبراهيم، والكثير من الموروثات الصحيحة التي شابها انحرافات وشركيات كانت يجب أن تصفى من كدرها.
كذلك في الجانب الاجتماعي جاء النبي متممًا لمكارمه، وهذا اعتراف ضمني بوجود مكارم عند العرب، فصحح الفساد وزاد على الخير، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ" (رواه أبو هريرة).
رفع الإسلام من شأن العرب، وحررهم من قيودهم النفسية والسياسية وجعل لهم ولأول مرة كيانًا سياسيًا يغير موازنات القوة في المنطقة والعالم بأسره.
شجع الإسلام التجارة، بل دعم التجارة بقوته السياسية، وناصر الفقراء. فوسّع عملية الإنتاج وزادها (من خلال الفتوحات والانكشاف على الدول الأخرى، ومن خلال تحرر العرب من سياسة الإمبراطوريات الكبرى)، وحفظ للفقراء حقهم وأوفى.
ربما يغفل البعض عن هذا الجانب، لكنه صاحب أهمية عظيمة، فرسالة الإسلام عالمية، وعالمية الإسلام وتنوعه تمنح العرب استيعاب الشرق والغرب، والاستفادة منهم في جوانب مفقودة عند العرب، ونقاط ضعف يعوضها آخر أعجمي.
هذا الانكسار والوهن الداخلي يجعل منا نحن العرب مستعمرين في نفوسنا حتى من غير تواجد مستعمر في الأرض، هذا الانكسار يورث الوهن والضعف ويقيّد العمل والانتاج |
يمكن التثبت من حاجة العرب الحضارية للإسلام من خلال مراجعة تاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخخ العرب المعاصر بعد سقوط مؤسسة الخلافة الإسلامية. هذا تدعيم قوي للبحث عن علاقة العرب والإسلام في عز الإسلام، يقيني أن البحث خلال فترة الإسلام هي كافية، لكن للتثبت ودحض كل ادعاء مخالف يمكننا عرض حالة العرب قبل الإسلام وبعد سقوط الخلافة.
لو تمعنا في حال المسلمين بشكل عام وحال العرب بشكل خاص بعد سقوط الخلافة، لوجدنا الكثير من المحاولات والمشاريع السياسية المبنية على دعوات غير إسلامية، مثل القومية، أو العلمانية، أو الشيوعية.. وكلها على الإطلاق كُتب له الفشل المطلق. ولم نرَ حتى اليوم أي تجربة حضارية في العالم العربي، ولا يوجد أي بصيص لذلك.
يشير المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي لقضية مهمة جدًا، أطلق عليها "القابلية للاستعمار"، وهي تشير الحالة النفسية المتهالكة لدى قوم معينين. هذا الانكسار والوهن الداخلي يجعل منا نحن العرب مستعمرين في نفوسنا حتى من غير تواجد مستعمر في الأرض، هذا الانكسار يورث الوهن والضعف ويقيّد العمل والانتاج، وبل يجعل المصاب به يتذيل قائمة الأمم.
إن هذا الوهن مرتبط بانحدار حضارة الإسلام، فوجود الحضارة الإسلامية يقينا من هذه الأمراض القاتلة. إن الوهن النفسي لا يتوقف عند حدود انعدام الثقة بالذات، بل يتعدى ليجعل المصاب بهذا الوهن ينبهر بما يقوم به عدوه، ويجعله مثالًا يقتدي به، وفي هذا الباب أفرد ابن خلدون عنوانًا في مقدمته: المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده . فلا بد من غلبة للعرب يقودها الإسلام حتى تتبدل هذه الأحوال والهزائم النفسية.
لا حضارة للعرب من غير الإسلام. يمكن التثبت من ذلك إما في بحث حال العرب قبل الإسلام وبعد سقوط الخلافة، أو في بحث حال العرب في زمن عز الإسلام. إن حاجة العرب الحضارية لا يمكن أن يحلها إلا الإسلام، وهذا الادعاء يمكن تدعيمه بأدلة وحقائق موضوعية، وتجاوز حدود الخطاب العاطفي غير المقنع والضعيف في حالات كثيرة.
هوامش:
١. المنذري، الترغيب والترهيب، 4/35.
٢. خنفر وضاح، الربيع الأول: الحلقة السادسة – معركة ذي قار.
https://goo.gl/imsMFb
٣. الشنقيطي محمد المختار، الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية.
https://goo.gl/cFwbcg
٤. ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، الفصل الثالث والعشرون.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.