شعار قسم مدونات

التشريع الوضعي وسؤال العدالة

blogs القانون

يعتبر القانون ضرورة بشرية اقتضتها طبيعة الإنسان الاجتماعية، بحيث لا يستطيع العيش بمعزل عن بني جنسه، وهو يحتاج دائما إلى الجماعة التي تشاركه الحياة وتُبادِله المنافع، وهذا ما قد يُعَرض علاقاته وتصرفاته للتعسف والشطط والظلم، وكذا تضارب المصالح واشتداد النزاعات، ولهذا يقتضي المنطق الاحتكام إلى قواعد قانونية وضوابط نظامية يُلزَم بها الجميع حتى يستقيم تدبير المنافع والمرافق ويعتدل أمر المصالح.

فالقانون أداة لضبط الكائنات البشرية ولا يمكن إنتاج تشريع في عصرنا اليوم بدون إجراءات سَنِه تكون وفق قالبٍ قانوني، هذه القواعد تصدر عن سلطة منتخبة تمثل أفراد المجتمع وفي هذا المقام يقول جون كلود بيكان ومايكل كودير في مؤلفهما أساليب القانون ص:115 البرلمان عصب كل دولة ومستودع الفكرة ومصدر قوة الدفع فيها إما الى النمو والتقدم إما الى الانكماش والتعثر. فموضوع العمل التشريعي يحتل مكانة متميزة في الدراسات القانونية وذلك يعزى بسبب ما يقوم به التشريع من دور في حياة الافراد والجماعات إذ لا يمكن تصور وجود نوع من أنواع التنظيمات الاجتماعية دون وجود تشريع يؤطرها وينظم العلاقات القائمة بين أفرادها في زماننا اليوم بعد أن شاع على باقي المصادر الأخرى رغم دورها الفعال وحاكميتها.

ففكرة التشريع لا تأتي من فراغ وإنما يجب ان يستدعي المجتمع لإنشائها أو يفرض رغباته في إصدارها طبقا لمطالبه وحاجاته والاصل أن تبدأ الفكرة من المجتمع ويكون التشريع الاجتماعي متوافقا مع مصالح او مطالب عامة لفئة معينة، ثم يأتي دور الصائغ -المشرع- بسلطتها حقيقةً وبعلمه بالقواعد اللغوية والفنية حكماً التي يجسدها في قواعد قانونية عامة ومجردة لتحقيق العدالة المفترضة. فهل التشريع الذي هو عبارة عن نصوص صادرة عن ممثلي الشعب-البرلمان- في إطار ما يصطلح عليه بالديمقراطية التمثيلية تُحقِق العدالة الحقيقية أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد عدالة مفترضة خضعت لمساطر شكلية واصفةً إياها بالمشروعة، وبالتالي يعتقد واضعها بذلك وكذا المشتغل بها سواء الموكول له أمر تطبيق القانون إلى غيره من المتدخلين؟

حب العدالة عند أغلب الناس هو خوفهم من معاناة الظلم الذي هو نِتاج طبيعة بشرية مركبة من مجموعة من الغرائز كحب النفس والتسلط

العدالة في جوهرها ما هي إلا مطابقة الحقيقة القضائية للحقيقة الواقعية، ولتحقيق هذه العدالة داخل جماعة كيف ما كان القانون الذي يحكمها لاشك أنه يتدخل فيها مجموعة من المتدخلين قبل أن تصل الى سلطة أوكلت لها مهمة الفصل بين الأفراد بمقتضى التشريع؛ فهي تبدأ -العدالة- من أطراف الخصومة إذا ما توافرت فيهم شروط إحقاق الحق ونبذ الظلم، ثم مساعدي العدالة من محامون و خبراء بوازع أخلاقي يحكم في دواخل النفس التي تؤمن بأن الحق مسألة أخلاقية وليست عبارة عن مراكز واقعية مصنوعة؛ ولن يكون للفرد نصيبه من هذا السلوك إلا إذا تربى على القيم الإنسانية الأصيلة والفطرية السليمة، فهل الجهة الموكولة لها أمر سن التشريع تعمل على إصدار قوانين تحقق العدالة؟

قد تبدو إذاً فكرة ربط العدالة بتطبيق التشريع فكرة تثير التساؤل والبحث من جهة وتثير الفضول المشروع من جهة أخرى، لكن ماذا لو كان هذا التشريع الخاضع له الأفراد غير عادل لعدم مراعاته لمجموعة من الأسس التي ينبني عليها المجتمع عند صياغته؟ هل سيكون تطبيقه مصدراً للعدالة؟ وماذا لو كان هذا التشريع يُطَبَق ولكن ليس بصورة مطلقة؟ وهذا طرح آخر نأتيه في قادم المقالات إن شاء الله، وماذا لو كان وُضِع- التشريع- من قوة الضغط بتأييد من ممثلي الأمة عند عرضه عليهم وتم التصويت عليه؟ أسئلة مشروعة تجعلنا نعيد طرح الإشكال المرتبط بمسألة علاقة العدالة بتطبيق التشريع؟

هل العدالة هي تطبيق للتشريع؟ يبدو من خلال المفهومين الأساسيين أنه يراهن على وجود علاقة بين العدالة والتشريع، وبشكل أدق فهو يتضمن فرضية تتأسس على اعتبار تطبيق التشريع سبيلاً لتحقيق العدالة أي أن العدالة تتمثل في تطبيق التشريع، فما المقصود بالعدالة؟ وهو المقصود بالتشريع؟ وما العلاقة بينهما؟ العدالة :هي الاستقامة، وهي قاعدة أخلاقية وقانونية يتأسس عليها الحق الذي ينبغي أن يتمتع به الإنسان، فهي- العدالة – لغةً تعني الاستواء أو الاستقامة أو كلاهما معاً، وهو ما قام في النفوس على أنه مستقيم وضد الجَور، أمّا العدالة اصطلاحاً: هي صيغة مشتركة للتعايش بين البشر، وتعني عدم الانحياز في محاكمة أي شخص إلى أي أمر خارج عن قانون وضعي تشارك في صياغته جميع الناس بعيداً عن التحكم.

يقول لداروشيفو إن حب العدالة عند أغلب الناس هو خوفهم من معاناة الظلم الذي هو نِتاج طبيعة بشرية مركبة من مجموعة من الغرائز كحب النفس والتسلط؛ فقبل وجود الدولة كانت العدالة تتسم بطابعها الخاص الذي لا مجال لتدخل أي سلطة عامة فيه كما كان يغلب عليها طابع القسوة والانتقام الذي تراجع بظهور تنظيم سياسي، انتقلت معه العدالة من رب العائلة أو القبيلة الى الدولة.

ولعل ما يميز مفهوم هذا المصطلح هو طابعه الذي يختلف باختلاف النظم وتباين الافراد لكن المتمعن فيه يجد أن معناه في أغلب الأحوال هو الهروب من اللاعدالة والظلم، فمنظور العدالة عند أفلاطون هو قيمة مطلقة ثابتة لإن الفضائل لا تتأثر بتغير الأنظمة الحاكمة أو المجتمعات.

 العدالة تربطها بالضرورة علاقة بالتشريع، وبالتالي يتطلب تحقيقها تطبيقا للقانون شريطة أن يكون هذا القانون في خدمة مصلحة الفرد ويصون حقوقه ويحدد واجباته، وأن يكون مبنياً على أسُس أخلاقية
 العدالة تربطها بالضرورة علاقة بالتشريع، وبالتالي يتطلب تحقيقها تطبيقا للقانون شريطة أن يكون هذا القانون في خدمة مصلحة الفرد ويصون حقوقه ويحدد واجباته، وأن يكون مبنياً على أسُس أخلاقية
 

هنا لابد لنا أن نميز بين التشريع والقانون فالأول هو" ما تنتجه المؤسسة الدستورية -البرلمان- الموكول له أمر وضع القواعد الضابطة لسلوك الافراد والمؤسسات على السواء " كاختصاص أصيل أما القانون " فهو مجموعة التوجهات والقواعد التي تحكم بنيات متعددة ترتبط فيما بينها بروابط وعلاقات متعددة أُنتِجت بصورة بطيئة ومطردة عبر الزمن وتولد عنها اعتقاد باستحالة تجاوزها" عبد الحكيم الحكماوي تلقي القانون – الجزء الأول منشور بالجامعة القانونية المغربية الافتراضية.

المنطق يفرض علينا الجواب بصورة واضحة وجلية ، وهو أن مثل هذا التشريع قد يعتبر صحيحا وعادلًا وفق منظور واضعه الذي خوله منتوجه – التشريع الصادر عنه- أن يحتكر التشريع و يُعدِله و يلَغيه، ويمتد ذلك إلى غل يد السلطة القضائية بنصوص عامة تارةً وأخرى غير عادلة تارةً أخرى، مُحدِدَةً مهمتها في التطبيق الآلي لما هو مُشَرَعَ، والعمل على فصل النزاع، فلا يبقى للقاضي إلا التطبيق؛ فهل نكون أمام تشريع عادل يحقق العدالة الحقيقية أم أن الامر لا يعدو أن يكون مجرد عدالة مفترضة في تصور واضعه، وهذا ما لا يلاحظه إلا المشتغل بالقانون والمهتم به، أما الخاضع له – المتقاضي- يرى أن السلطة التي لها الحق في البت في المنازعات لم تُنصِفه وفقاً لمنطق سليم ولقواعد العدالة والانصاف الكونية، التي عُطلت بنصوص غير عادلة بكونها صادرة عن جهة أضفت عليها بسلطتها صبغة المشروعية.

نستطيع أن نقول إن العدالة تربطها بالضرورة علاقة بالتشريع، وبالتالي يتطلب تحقيقها تطبيقا للقانون شريطة أن يكون هذا القانون في خدمة مصلحة الفرد ويصون حقوقه ويحدد واجباته، وأن يكون مبنياً على أسُس أخلاقية؛ حتى يحترمه هؤلاء المواطنون وينبغي أن يوجد نموذج لدولة الحق والقانون التي تسعى لتحقيق العدالة من خلال تطبيق العادل للقانون الذي يجد أساسه بصريح الفصل 110 من الدستور المغربي. 

نمهد للإجابة بسؤال، فالتشريع أحد هذه الآليات التي يمكن أن تضمن تحقيق العدالة غير أن الإشكال الذي يمكن مصادفته هنا هو ذاك المتعلق بإمكانية أن تكون العدالة مرتبطة بتطبيق التشريع، فهل تطبيق التشريع يؤدي بالضرورة إلى تحقيق العدالة؟ ألا يمكن أن يكون تطبيق التشريع حاجزاً يمنع تحقيق العدالة؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.