شعار قسم مدونات

أبراهام السرفاتي.. آخر محطات النضال المبدئي

مدونات - أبراهام السوفاتي

من المنصب المحترم إلى المناضل المنبوذ، هكذا كانت مسيرة شخص المناضل المغربي أبراهام السرفاتي في سبيل الانتصار للمبدأ، بداية من محطة درب مولاي الشريف ووصولا إلى معتقل السجن المركزي بالقنيطرة، وما لاقاه بينهما من آهات جزاء وفاقا لتغريده خارج السرب. هذا المناضل الذي هجر رغد الحياة وزخرفها وانتصر لمبادئه وقناعاته التي لم يتوان قط عن تنزيلها كحقيقة على أرض واقع مغرب ما بعد الاستقلال.

 

عاش الرجل بمعية رفاقه (الرفيق بمعناها النضالي لا الوراثي) مسيرة نضالية من أجل صناعة مغرب تراءى لهم من خلال توجهاتهم الأيديولوجية، أنه مغرب الكرامة، مغرب المجد، مغرب الحرية.. مغرب يجاز فيه أبناء وأحفاد من ناضلوا في سبيل استقلاله شيء من قطرات دم أباءهم وأجدادهم؛ فكان الرفض والاحتجاج والاعتقال والتباث.. عناوين لخطوات مسيرة نضالية طبعت بوزنها شيء من تاريخ المغرب المعاصر. 

 

أصاب السرفاتي شيئا من مرض "الزهايمر" الذي حال دون عودته بثقله المعهود عنه في المجال السياسي، ليعانقه الموت بوطنه كما شاء ذلك سنة 2010م

لقد كان النفي آخر محطة نضالية لشخص السرفاتي حيث سيقضي سنوات منه في فرنسا إلى حين عودته للمغرب بعد مضي ما يعادل الثماني سنوات، حيث رجع الرجل هذه المرة بمنطق وقناعات جديدة نوعا ما لا تخالف قراءات الأمس في شيء وانما تتوافق وتطورات المرحلة، وبغض النظر عن أولئك الذين حاولوا التشكيك في ثوابت السرفاتي بزعمهم أن المناضل ابراهم قد قًدم بعض التنازلات المبدئية مقابل عودته إلى الوطن؛ فإن مسار الرجل النضالي بتاريخه ومحطاته يشفع له ويجعله في منأى عن أي مزايدات مصلحية.

 
بل الأكثر من ذلك وهو أن التوجه العام الذي سارت إليها القضية الاشتراكية في مجموع أصقاع العالم، وحتى في معقلها الاتحاد السوفياتي من خلال تبني سياسة "البروسترويكا " خلال السنوات الأخيرة من عمر المعسكر الشرقي، يوضح لنا موقف المناضل السرفاتي بعد عودته، ويوضح لنا كذلك مواقف مجموعة من الزعماء اليساريين الذين ساروا على شاكلة السرفاتي. فالعلة يومها علة منظومة سرى في دواخلها الفشل، وأضحى السوفياتيون أنفسهم سنوات الثمانينيات يسابقون الزمن نحو قدر الانهيار المختوم بتوقيع دهاء الرأسمالية.
 
قضى السرفاتي آخر أيامه بالمنفى وكل أمل في العودة إلى الوطن الأم، الوطن الذي أفنى فيه زهرة الشباب وعزيمة الطلاب ونضال السياسيين المبدئيين، فكان له ذلك سنة 1999 حينما فرضت عليه الحتمية التاريخية التي المت في دواخلها ما هو آني وتاريخي وما هو سياسي واجتماعي.. تصويب شيء من قراءات الأمس القريب، هذه التصويبات التي أنتجتها حكمة اليساري الفذ في ظل غياب شبه تام للظروف السياسية والاجتماعية لسنوات الستينيات والسبعينيات، سواء على المستوى العالمي أو حتى على مستوى الوطن العربي، فقد فقًد التوجه اليساري الذي لطالما آمن به السرفاتي لمعانه النضالي وبريقه الحزبي اليوم.
  

 
تقلد أبراهام فور عودته إلى المغرب منصب المستشار لدى المكتب الوطني للأبحاث النفطية، إلا أن تدهور حالته الصحية لم يكن ليساعده في التأقلم مع المنصب الجديد. فالرجل بحسب ما عبر عنه ابنه قد أصابه شيء من مرض "الزهايمر"، الذي حال دون عودته بثقله المعهود عنه في المجال السياسي، هذه العودة التي لطالما انتظرها العديد من رفاق الدرب. ليعانقه الموت بوطنه كما شاء ذلك سنة 2010م ويسدل الستار على محطة مهمة من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال.

 

وأنا أقارب (ريبرتوار) الرجل ورفاقه بشيء مما عايشناه بجامعتنا المغربية كمحطة أولى نتجاوب فيها ونتعرف خلالها على مفهوم النضال وفق رؤى وتوجهات مختلفة، وتزامنا مع بعض المحطات الأخرى التي عاشتها الساحة النضالية خلال السنوات العشر الاخيرة.. نعم، وأنا أقيس نضال الأمس القريب بما عايناه. لم يكن مني إلا أن طأطأت الرأس مع ابتسامة صغيرة أخفت وراءها شيء من الاستصغار النضالي والحسرة المواقفية والاستغباء فيما قاربناه من المفهوم بنقيضه..

 
لقد بكى السرفاتي نهاية مشواره النضالي، مغربيته ووطنه الأم، ولم يبك قط ساقيه اللتين أنهكتهما وأقعدتهما سنوات الرفض بمعناه المبدئي وليس المصلحي. هذه الشخصية لا نملك أمامها من الحول غير القول كان درسا عظيما يا أبراهام لك منا جزيل العرفان والامتنان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.