شعار قسم مدونات

ستيف هوكينغ.. في الجنة أم في النار؟

مدونات - ستيفن هوكينغ

مرة قال لي أحد الأصدقاء، وهو بالمناسبة من المنبهرين جدا بمشايخ السعودية وبالتيار السلفي الوهابي، قال لي نقلا عن أحد الشيوخ بأن أديسون أضاء العالم باختراعه المصباح لكنه لم يضئ قبره باعتناقه الإسلام، فيما معناه وبالاستناد طبعا إلى آية أو حديث أسيئ فهمه وتأويله أن أديسون يرقد في قبر مظلم وينتظره يوم القيامة عذاب أليم لأنه غير مسلم.. ستيف هوكينغ أو توماس أديسون لا يربطنا بهم شركهم أو كفرهم أو إلحادهم.. فتلك علاقتهم بخالقهم، ما يصل إلينا هو أعمالهم وخدماتهم واجتهادهم الذي وجب علينا شكرهم عليه، وأبسط أشكال الشكر هو الحزن لموتهم والدعاء لهم بالرحمة. تأملت مليا هذه العبارة البراقة وانشغلت بحجم السم المدسوس في عسل بريقها، صياغة وحبكة أدبية من ملتح يحفظ كما هائلا من النصوص بتفسير علماء عصر غير عصره، يحشر بها مخترع الإنارة التي تبيض وجهه على إحدى القنوات البئيسة في النار مضللا بذلك جموعا من الأتباع والمريدين ومبخسا في نظرهم قيمة العلم والعمل الدؤوب والاجتهاد.

 

يا إلهي هل حقا من سهر الليالي وعمل بكل دأب لينير الدروب والمساجد وغرف العمليات الطبية وكل أرجاء العالم يرقد في قبر مظلم لأنه ليس "مسلما"، بينما "المسلمون" الذين ينفقون جل أوقاتهم على المباريات وبرامج الكاستينغ واللهو بجميع أنواعه بما فيه التفرج على مشايخ نواقض الوضوء والفتاوى والأحكام الجاهزة سيدخلون الجنة!!

 

تذكرت هذا الصديق عندما طالعت على مواقع التواصل خبر وفاة العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ فأثار انتباهي نوع الردود المعقبة على كل من ترحم أو طلب المغفرة له، من قبل "المتأسلمين" أتباع القنوات الوهابية التي تمحورت كلها حول عدم جواز الترحم عليه بدعوى أنه ملحد، مستندين في ذلك إلى الآية في سورة التوبة قال جل وعلا: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ".

 

هذا النقاش حول جواز الرحمة على ستيف هوكينغ من عدمه، حجب علينا بشكل كبير التأمل في أعماله وأخذ العبرة والدرس من حياة هذا العالم الذي تحدى المرض والإعاقة، وسار على درب العلم والعمل

نلاحظ هنا أن كلمة "تبين" تكررت من باب التأكيد ولفت الانتباه ومفادها أنه تبين وتأكد وتحقق للنبي وللذين معه أن عددا من المشركين الذين شاقوا الرسول وواجهوا رسالته بالعداوة أنهم أصحاب النار فنهي عن الاستغفار لهم ولو كانوا أولي قربى في إشارة إلى عمه صلى الله عليه وسلم.. كما نهي قبله إبراهيم عن الاستغفار لأبيه بعدما تبين وتحقق له أنه عدو لله فتبرأ منه. لست هنا مفسرا للقرآن ولا مجال للخوض في هذا الباب كما أني لا أريد أن أرى تعليقا على المقال يلزمني بتفسير معين أو الرجوع إلى أسباب النزول ولكن كان من الضروري تسليط الضوء على قضيتين:

القضية الأولى: تخص طبيعة الأعمال المقترفة من طرف أولئك الذين نهي عن الاستغفار لهم، وهذه الأعمال تتلخص في معادات الرسالة الربانية التي تتخللها معادات للحق والعدل والسلام والإخاء وإذاية للمستضعفين، بلغة العصر فهي معادات للقيم الإنسانية.

القضية الثانية: أن هذا النهي عن الاستغفار جاء على شكل وحي بالنسبة لمحمد (ص) فأخبر بذلك أصحابه ممن عاصروه، وتبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، كما نادى نوح من قبل ربه أن ابنه من أهله فجاءه الجواب من ربه بأنه عمل غير صالح.. فليس كل أب منهي عن الاستغفار لابنه ولا كل ابن منهي عن الاستغفار لأبيه أو عمه أو أهله إلا إذا أوذي منهم إذاية فاحشة فدعى عليهم عندها لا تجتمع شكواهم إلى الله مع الدعاء لهم.. 

  

ستيفن هوكينغ (رويترز)
ستيفن هوكينغ (رويترز)

 

بالنسبة لحالتنا فلا هؤلاء العلماء من الذين أساؤوا إلى البشرية، ولا من يرفضون الدعاء لهم من الموحى إليهم! بل على العكس من ذلك، مثل هؤلاء العلماء قدموا خدمات إنسانية جليلة إلى البشرية ساهمت في تيسير سبل العيش وتطوير الطب والأمصال والأدوية التي تحقن دماء الإنسان، كما أن ستيف هوكينغ موضوع التساؤل انضم إلى مقاطعة إسرائيل متضامنا بذل مع إخواننا في فلسطين، كما ناهض الحري ضد العراق منحازا للطرف المستضعف.. لا أفهم كيف نرفض الدعاء مع من يقاطع إسرائيل بينما ندعوا مع بعض لاعبي المستديرة المشهورين بدعمهم للقتلة الصهيونيين.. ندعوا معهم في كل ملتقى كروي بتسديد ضرباتهم!

 

ستيف هوكينغ أو توماس أديسون لا يربطنا بهم شركهم أو كفرهم أو إلحادهم.. فتلك علاقتهم بخالقهم، ما يصل إلينا هو أعمالهم وخدماتهم واجتهادهم الذي وجب علينا شكرهم عليه، وأبسط أشكال الشكر هو الحزن لموتهم والدعاء لهم بالرحمة. ثم إن علاقتنا بغير المسلم محددة في القرآن بأن لا نقعد معهم إذا سمعنا آيات الله يستهزأ بها حتى يخوضوا في حديث غيره، أما أعداء الإنسانية فعلاقتنا بهم هو جهادهم ومقاتلتهم. ثم إن هذا النقاش حول جواز الرحمة على ستيف هوكينغ من عدمه، حجب علينا بشكل كبير التأمل في أعماله وأخذ العبرة والدرس من حياة هذا العالم الذي تحدى المرض والإعاقة، وسار على درب العلم والعمل، فكم نحن بحاجة إلى عزيمته وقوة إرادته وتصميمه على بلوغ ما وصل إليه، أما معتقده فذاك شأنه مع خالقه.

 
فلترقد أرواحكم بسلام أيها العلماء.. فأنتم تركتم لنا علما ننتفع به، مسلمين كنتم أم غير ذلك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.