شعار قسم مدونات

ما بعد العشرينيات.. البحثُ عن مخرج طوارئ!

مدونات - رجل وامرأة
 
سمعتُ الكثيرين من قبل يقولون إن القرارات الكبرى التي نتخذها عن قناعة راسخة في العشرينيات سنراجعها وربما نندم على الكثير منها في الأربعينيات، بعد أن تتغير نظرتنا للكثير من الأمور ونعاود التفكير في كثيرٍ مما كنا نعدّه بديهياً أو مما كنا نعدّه من الضروريات. كثرة الاستماع لهذه الأحكام من الكثيرين من حولي، جعلني على ما يبدو أستبق الأمور، وصرتُ أحاول أن أبحث عن الزاوية التي سـأنظر بها للأمور بعد أقل من عقدين؛ ما الذي سيتيغر بين عُمري اليوم وحين اقترابي من سن الأربعين؟ وما الفرق الذي سيحدث لأرى علاقتي بأبي وأمي ومحيطي ووطني ومعايير اختيار شريك حياتي وتعريفي للكثير من الأمُور مختلفاً عما يدور في بالي اليوم؟ ومن احتكر النضج وعلى التقدم في السنّ؟
 

إن اتخاذنا قرارات كبرى بقدر ما لهُ من رهبة وما يتطلبُه من شجاعة، بقدر ما هو مقياس لقيمة حياتنا، فكلما كان في حياة أحدنا قرارات مصيرية ومخاوف، كلما كانت هذه الحياة قيّمة ومزدحمة أكثر، وكلما كان لديك أشياء تندم عليها وأخرى تقدّرها أو تخاف خسارتها يعني أنّ هناك أشياء ثمينة في أيامك.. أما من يعيشُ ولا شيء لديه يخسرُه فهو حتماً لا شيء لديه يكسبُه أو يحرص عليه، يُشبه الأمر العلاقة بين راحة البال والمعرفة، كلما عرفتَ أكثر زاد شقاؤُك!

 

في العشرينيات نتخذ قرارات الزواج، والاتجاه المهني، وترتيب المال والمادة في حياتنا، بل وترتيب العائلة، وفي هذا العقد من أعمارنا – وهو ريعان الشباب- سيكون من الجميل لو استمتعنا بجزء من نتائج قراراتنا مبكراً في حال كنا من المحظوظين، وكانت خياراتُنا صائبة. ثمة من اتخذ قرار شريك الحياة وحصد نتائجه قبل الدخول للعقد الرابع من العُمر، حصد النتائج وبدأ مرحلة تقبّلها وتوقع شكل المراجعات التي سيضطر لاتخاذها، والمراجعاتُ هنا لا تعني بالضرورة ندماً أو تراجُعاً، بل قد تكون المراجعة تحسيناً وتجويداً لبعض التفاصيل الناقصةَ، وعدم تكرارٍ لعثرات سابقة، وثمة آخرون تأخرت قرارتهُم المصيرية بإرادتهم أو مُجبرين. وفي كثير من الأحوال، تتوقفُ خياراتنا العاطفية والعائلية على ما أنجزناه في عملنا وحياتنا وما ادخرناه من مادةٍ في البنك أو في جيوبنا، فيكون كل قرارٍ باباً لقرارٍ آخر، وهذا ما يجعلها حساسة وحاسمةً أكثر.


الحياة في وطن لم يعش عشر سنواتٍ متتالية من الرخاء والاستقرار الكاملين منذ عقود، جعلتنا نقوّي حاسة الطرق المُختصرة والتسرع لدينا، طريق مختصرة للتخرج والعمل معاً، والزواجُ بأول شريك حياة

والعقد السريعُ هذا -أي عقد العشرينيات- قال لي أحد الأصدقاء يوماً إنه ليس الأسرع مروراً، بل بالعكس بانقضائه من أعمارنا تتشابه العقُود والأيام، ويتوقف الناس عن تمييز سنّك، وفي أي مرحلةٍ حياتية أنت، إلى أن تدخل مرحلة الكهولة أو تقترب منها، وأما ما بين العشرينات والكهولة فيمضي في إصلاح حماقات العشرين، يقول صديقي! وكنتُ في كل مرة أسمع فيها عن مراجعات العُمر، أسأل نفسي: أيهُم أكثر حكمةً؛ أنُفكر بعقل اليوم ونتخذ قراراتنا بما نحملهُ في عقولنا اليوم دون حمل هم مراجعات قد لا تأتي؟ أم نتمهّل دون تسرعٍ في اتخاذ القرارات الكبرى؟ فالتمتع بنتائج هذه القرارات ليس حكراً على شباب وحيوية العشرين.. بل فلندخر بعضاً من نشوة التجارب الكبرى لعُمر أكبر، ومن يقول إنه لا يضمنُ العيش حتى الخمسين لا يضمنُ العيش حتى يوم غدٍ أو للأسبوع القادم..

 

تجاوزتُ منتصف العشرينات وصرتُ أقتربُ من نهايتها، أقاوم تسرّعي في البحث عن إجابات أعرف أنها لا تأتي جاهزة بل تتكون في عقولنا تدريجياً ودون أن نعي تراكمها مع كل تجربة مهنية أو حياتية أو عاطفية نخوضها، مع كل إخفاق أو نجاح، إجابات لا يُمكن استعجال قدومها ولا يُمكن نكران التغيير الذي ستُدخله على نظرتنا للأمور ومعايير إعجابنا وحبنا أو العكس اليوم وأنا مأخُوذة بنشوة العشرينيات ولذة التهور والشجاعة، وعدم الانتظار، أدركتُ أنني وكثيرون في وطني ليس لدينا رفاهية الاختيار، بل تُجبرنا ظروفنا على تأجيل قرارات كُبرى أو استعجالها؛ لاغتنام فرصة التمتع بها وبنتائجها بأسرع وقتٍ ممكن، الكثيرُ منا لا ينتقي توقيت القرار بتأنٍ، بل باغتنام الفرص التي لا تأتي بسهولة.

 

وما ينبغي أن نتفق عليه أن لا توقيت صحيح لهذه المراحل والاختيارات، كلٌ ينظمُ حياتهُ ومراحلها بما يشاء.. أو بما تجبُره ظروفه. لكنّ إشارات عديدة حولنا تحثنا على التباطؤ والتمهل، تدفع هذه المطبات في أوطاننا شاب وشابة العشرين على أن يسيرو على مهلٍ ويصبرُوا، ليس في الأمر اختيار ومفاضلة أو تخمين. ازدحام السير، وتأخر المعاش، ورداءة الإنترنت، والاضطرارُ للوقوف في الطوابير والصفوف لأجل شؤون صغيرة، بل وحتى الموظف الحكومي الذي أضاع سبعة أيام من عُمري قبل أشُهر ليستكمل لي معاملة كان ينبغي أن تستغرق ساعاتٍ من الصباح، هو الآخر لا شك يعاني من التباطؤ والتأجيل في معيشته أو هُو لاشكّ يسابق الزمن ليُنجز شيئاً في حياته، لكن دون أن يلاحظ كم يعرقلُ سيرنا نحنُ معه..

  

غيرت ظرُوف أوطاننا هذا العُرف، وصار الكثيرون بعد تجاوز الثلاثنيات والأربعينات يغيرون الطريق ويبحثون عن مخارج وأبواب جديدة ومهنٍ جديد
غيرت ظرُوف أوطاننا هذا العُرف، وصار الكثيرون بعد تجاوز الثلاثنيات والأربعينات يغيرون الطريق ويبحثون عن مخارج وأبواب جديدة ومهنٍ جديد

 

الحياة في وطن لم يعش عشر سنواتٍ متتالية من الرخاء والاستقرار الكاملين منذ عقود، جعلتنا نقوّي حاسة الطرق المُختصرة والتسرع لدينا، طريق مختصرة للتخرج والعمل معاً، والزواجُ بأول شريك حياة يقتربُ من تعريفنا للسعادة بمنظُور شاب أو شابة عشرينية ما زالت لم تخبر من الحياة الكثير ولم تميز بين نكهة السعادة الحقيقية والمشاعر الشبيهة بها.

هل ما يحلُم به شاب في الثانية والعشرين من عُمره ويراه طموحهُ ويكدّ ليرى نفسهُ فيه هو ما يليق به حقاً؟ هل هُو ما سيجعلهُ سعيداً؟ هل يستحق الأمر العناء؟ وهل سيحتفظ هذا الشاب بنفس النظرة لهذا الحلم بعد بضع سنوات؟ لن يكُون من السهل تغييرُ الطريق بعد قطع مشوارٍ طويل فيها، ومع هذا غيرت ظرُوف أوطاننا هذا العُرف، وصار الكثيرون بعد تجاوز الثلاثنيات والأربعينات يغيرون الطريق ويبحثون عن مخارج وأبواب جديدة ومهنٍ جديدة، وقرارات بالرحيل أو البقاء في الوطن، وما اخترنا في شبابنا أن نقدمه لوالدينا وأسرتنا وما فاتنا ولم نقدمه لهُم، هل سأتحسر على بقائي؟ أم سأتحسر على رحيلي؟ والمال..؟ ما ادخرناهُ مبكراً.. وما أنفقناه، ما جنيتُه وما فاتني لما رفضتُ فرصة العمل تلك وقبلتُ أخرى بناءً على ما كان عقلي في العشرينات.. هل سأندمُ أم سأحب نفسي؟

 
قرأتُ قبل أيام على فيسبُوك منشوراً شاركه الكثيرون من رفاقي، أننا نندمُ عند كبرنا على ما فاتنا ولم نُجربه أكثر مما جربناه ولم ننجح فيه، لذلك صرتُ أريد تجربة كل شيء، محاولة ساذجة لاستباق الندم ونكران أنني فاتني شيء! المراجعات والتجديد من سمات الطبيعة البشرية، كيف لعقل يفكر ويتعلم ويتطور أن لا يتغير؟ إلا أنني كثيراً ما أحتار وأخشى أن تكشف لي الأيامُ حماقاتٍ كثيرة لم أتوقعها يوماً أن تكون كذلك، أوو أن يجذبني التيارُ إلى حيث لم يخطر ببالي يوماً.. ومع هذا فإنّ لكل قرار أو مخاطرة شعوراً لذيذا بالاكتشاف والتحدي، ربما هذه الحلاوة مردّها إلى عُمري الحالي لذلك قررتُ الاستمتاع بها وعدم تأجيلها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.