شعار قسم مدونات

حول الشك في العقل

blogs إنسان تفكير، تأمل

الشك في العقل، كفكرة تباغتنا فجأة، بدون أن نكون قد قررنا نحن ذلك بهدف نقد العقل، أو بهدف فتح المجال للإيمان الديني، أو أي هدف آخر.. الشك غير المنهجي، غير المعرفي وغير العقلاني، لأنه لو كان أيّا من هذه الأشياء فلن يكون شكا في العقل بل سيكون تأكيدا على الثقة في العقل. فالشك المنهجي ونقد العقل هو في الواقع تأكيد لسلطة العقل على نفسه وعلى كل المعرفة الإنسانية بعد ذلك.

إن رفض الشك غير المنهجي في العقل تحت دعاوى أنه لا معنى لذلك، هو عبارة عن تحصيل حاصل، لأن هذ الاعتراض نابع من العقل ويعمل وفقا لمعاييره التي هي محل الشك أساسا. إنه لا يختلف في شيء عن رفض الشك في الدين لأن الدين يأمرنا بأن لا نشك في الدين، إن الشك في العقل /الدين يعني إلغاء أو على الأقل تحييد سلطة الدين/العقل.

قد يقول المدافعون عن العقل بما أن العقل هو السمة الأكثر أصالة في الإنسان، كونه جزء من ماهية الإنسان نفسه، وهنا لا أعني بالطبع أن هناك عضو في الإنسان اسمه العقل، ولكن بالمعنى المجرد العقل جزء أصيل في الإنسان، وأكثر أصالة من الدين إذ يمكن يختلف الدين من إنسان لآخر، ولكن العقل يجب أن يكون دائما هو العقل، مرة أُخرى ليس لأن هناك شيء كوني اسمه العقل، وإنما لأن التفكير بناءً على أُسس هو سمة مشتركة بين كل البشر، يُمكن بهذا المعنى أن يكون الإنسان بدون دين ولكنه لن يكون بدون عقل، وذلك إذا استثنينا المرضى. قد يقولون لا يمكننا المساواة بين الشك في العقل والشك الديني لهذا السبب، فالأول جوهري وأصيل والآخر عرضي ومتغير.

يُمكن الشك في العقل بشكل وجودي غير معرفي، أي أن يكون الشك في العقل حالة ذاتية لا يُمكن صياغتها في اللغة والفكر، أي لا يمكن طرحها داخل حدود العقل

ولكن ولهذا السبب بالذات، كون العقل هو سمة أصيلة في الإنسان، يكتسب الشك في العقل أهميته وخطورته. وكونه كذلك لا يمنع أن الشك في العقل قد يكون واقعة حقيقة في نفس إنسان محدد صادف هذه الفكرة/ أو ربما الشعور. إنه أمرٌ أشبه بتجربة وجودية. ويجدر بنا هنا أن نتذكّر الإمام الغزالي وكلامه عن الشك في العقل، على الرغم من أن رمزية الغزالي الدينية تلقي بظلال من الشك العقلاني حول شك الغزالي نفسه ما إذا كان شكه في العقل مدفوعا برغبة دينية منذ البداية. بل ويجب أن تمتد هذه الظلال لتشمل كاتب هذه السطور نفسه وما إذا كان كلامه عن الشك في العقل مدفوعا برغبة دينية: ماذا لو كان الله هُناك ما وراء العقل؟ ماذا لو كان العقل يخدعنا كيف يُمكنني أن أعرف؟

في الحقيقة يجب أن أعترف، بأن شكي في العقل لا يخلو من رغبة دينية، ففي النهاية من الذي لا يتمنى أن يجد الله فيما وراء العقل. شخصيا أتمنى ذلك وأرجوه، ولكن عقلي يقوم بمهمته بكفاءة عالية فيما يبدو. "كفاءة عالية" هنا ليست مدحا ولا تبجحا، وإنما هي مجرد وصف. والدليل هو أننا في سياق الشك غير المنهجي في العقل، أي في سياق زحزحة وهز مكانة وسلطة العقل، ما يجعل صفة الكفاءة العالية نفسها محل شك معياريا ووصفيا، فقد لا يكون العقل، عقلي بالذات، يعمل بكفاءة وقد تكون هذه الكفاءة في الواقع أمرا سلبيا!

لماذا أخضع الدين للنقد العقلاني إذن؟ ببساطة لأن الدين يطرح نفسه داخل حدود العقل. أو بعبارة أكثر دقة، إن النقد العقلاني للدين هو نقد للجانب الموضوعي من الدين، فعندما يطرح الدين نفسه، من خلال اللغة، فهو يضع نفسه داخل حدود العقل وفي متناول النقد بالتالي.

الدين نفسه لا يمكنه التراجع عن العناصر العقلانية الموجودة فيه، وإلا فكيف يُمكننا من وجهة نظر الدين، التمييز بين الدين والخرافة؟
الدين نفسه لا يمكنه التراجع عن العناصر العقلانية الموجودة فيه، وإلا فكيف يُمكننا من وجهة نظر الدين، التمييز بين الدين والخرافة؟


الأمر الذي يجهله الفكر الديني عادة هو أن نقد العقل للدين ليس سببه أن العقل يتجاوز حدوده إلى ما هو إيماني وغيبي، وإنما لأن العكس هو الصحيح، أن الدين هو الذي يطرح نفسه في العالم الواقعي في التاريخ في حدود العقل والوعي الإنساني، وعندما يتعامل الإنسان مع البعد الموضوعي من الدين فلا يُمكنه أن يلغي عقله، إلا إذا أراد هو ذلك كما يفعل المتدينون.

عندما أفكر في الدين وفي الله، فأنا لا أفكر فيما هو مطروح على أنه الدين وعلى أنه الله، وذلك على الرغم من أن هذه الفكرة بحد ذاتها تبدو كفكرة دينية: الدين أيضا يقول عن الله ليس كمثله شيء، وهناك أيضا اعتقاد ديني واسع في واقعنا الحالي بأن النسخة الحقيقية من الدين لم تُفهم بعد، وأن فهمها الصحيح موجود عند الله وحده. كل هذا يجعل كلامي عما ليس الله وما ليس الدين عبارة عن تكرار لما يقوله حتى أكثر الناس نصوصية.

 

لا مفر من التفكير في الدين بالعقل، ليس هناك خيار لأن الواقع والتاريخ يجبرنا على ذلك. هذا أمر لا يُمكن التراجع عنه بحال من الأحوال، بل إن الدين نفسه لا يمكنه التراجع عن العناصر العقلانية الموجودة فيه، وإلا فكيف يُمكننا من وجهة نظر الدين، التمييز بين الدين والخرافة؟

وفي الوقت نفسه لا معنى للشك في العقل بواسطة العقل، لأن ذلك سيقود دائما إلى المزيد من العقل، أي المزيد من سلطة العقل. ولكن يُمكن الشك في العقل بشكل وجودي غير معرفي، أي أن يكون الشك في العقل حالة ذاتية لا يُمكن صياغتها في اللغة والفكر، أي لا يمكن طرحها داخل حدود العقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.