شعار قسم مدونات

بلك بن بهرام.. صائد الملوك

مدونات - تاريخ

"ما أشبه الليلة بالبارحة" كلمة قالها طرفة بن العبد في شعره فصارت مثلاً يُتداول في كل مجلس. نعم ما أشبه ليالينا التي نعيشها في هذه الفُرقة والتشرذم بتلك التي عاشها أجدادنا قبل 9 قرون. دويلات متناحرة، وحكامٌ أعماهم الطمع، وشعب غافلٌ تافه استطيب مقعده واستلان أريكته فرضى بحياة التعليف والتفريخ كالدجاج، فلا همُّ أمةٍ يؤرقه، ولا طلب مجد يحفّزه. إن مما يشكر الله عليه أنه لم يدعنا حتى في أوهن ظروفنا بدون أشخاصٍ أباةٍ ذووا أنفةٍ. لم يرضوا بالذل وحياة القطيع. وسعوا للمجد ولنهوض أممهم بشتى أديانهم (كالمسيحي الفينزويلي سيمون بوليفار. الرجل الذي حرر قارة من الظلم) فتصدوا للصيادين في الماء العكر الذي يمثل مجتمعنا. وبذلوا الغالي والنفيس كي يرجعوه كما كان خالصاً سائغاً للشاربين. يقول المتنبي في أبياته الشهيرة:

إن الذي يرتجي شيئاً بهمته ..  يلقاه لو حاربته الإنس والجن
فاقصد إلى قمم الأشياء تدركها ..  تجري الرياح كما رادت لها السفن

 

قبل تسعة قرون. كانت أمتنا في الحضيض على كل الأصعدة. حيث قُسّمت إلى دويلات صغيرة كتقسيم الكعكة في الحفلة المزدحمة. وكل دويلة تنازع جارتها. ومغروس في وسطها كيانات غاصبة محتلة. فقد استغل الصليبيون ضعف أجدادنا واستولوا على أوطاننا في الحملة الصليبية الأولى وأقاموا إمارات وممالك في قلب أوطاننا. ما أشبه الليلة بالبارحة. كل مدينة عليها أمير أو ملك. لكن عزّ على أمتنا أن تجد فيهم صاحب حميّة أو دين أو طالب مجد. وكان لسان حال أمتنا يردد أبيات الأبيوردي:

فليتهم إذ لم يذودوا حميةً ..  عن الدين ضنوا غيرةً بالمحارم
وإن جهدوا في الأجر إذ حمس الوغى .. فهلا أتوه رغبة في الغنائم

لكن الله منّ على أمتنا في تلك الفترة بالأتراك الأراتقة، وهم فرع تركي غير السلاجقة والعثمانيين. حيث كانوا يحكمون الكثير من المدن الإسلامية في العراق والشام. وكان معظمهم مجاهدين معادين للغزاة الصليبيين، فجاهدوهم كثيراً وحاولوا طردهم لكن الخيانة والأنانية وضعف الجانب الإيماني لغالبية المجتمع الإسلامي حال دون الانتصار. ولم يأتي النصر حتى بعث الله للأمة من ينقذها وهو الناصر صلاح الدين الأيوبي.

  undefined

 

كان من أقوى الحكام الأراتقة نجم الدين إيلغازي الأرتقي. حيث كانت إمارته تعتبر كبيرة نسبياً مقارنة بجاراتها. فكان يحكم مدينة ماردين وميافارقين وخرتبرت وما حولهم من الضواحي، وكان مجاهداً للصليبيين معادياً لهم، كانت له هيبة في المنطقة، وكان مبايعاً للخليفة العباسي الذي كان مجرد سلطان روحي لا حسي ويدعو له على المنابر.

 

في عام 516 هـ. أرسل إيلغازي إلى بلك بن بهرام الذي كان والياً له على مدينة خرتبرت وهو ابن أخيه بأن يجمع ما يقدر عليه من التركمان ويباغت إمارة الرها الصليبية ويحاصرها. فلما استلم بلك الرسالة أرسل فوراً لكل حلفائه من عشائر التركمان في المنطقة يستنفرهم للجهاد ويهيضهم للغزو. فجمع بضعة آلاف من التركمان وانطلق بهم نحو إمارة الرها وكانت من أقوى الإمارات الصليبية وأحصنها، وكان يحكمها الأمير الفرنجي جوسلين دي كورتناي، فوصلت الأخبار إلى جوسلين فتحصّن جيداً، وأغلق أبواب المدينة وقوّى دفاعاتها واستعد جيداً للحصار.

 

وصل بلك بن بهرام ومن معه من التركمان إلى أسوار مدينة الرها وضرب عليها الحصار. واستمر طويلاً.. فكانوا يهجمون على المدينة من حين لآخر ويحاولون تسلق السور وكسر الباب، لكن الفرنجة كانوا يقذفونهم بالسهام والنار والزيت المغلي، ولم يكن مع بلك منجنيق لقصف المدينة. فاستمر يحاصرها أملاً في نفاد المؤونة لدى الفرنجة ويضطروا للتسليم. لكن الوقت قد طال. وابتدأ الجنود بالتململ من الانتظار، فيئس بلك من فتح المدينة واضطر إلى رفع الحصار والانسحاب..

  undefined
 

فرح الفرنجة كثيراً فقد اعتُبِروا منتصرين ودافعوا عن إمارتهم دفاع الأبطال، لكن الأمير جوسلين كان له رأي آخر!.. حيث أراد جوسلين أن يهجم على بلك ومن معه أثناء انسحابهم ليُجهِز عليهم. فقد كان يمتلك عنصر المفاجأة وأيضاً كان يعلم أن معظم جنود بلك من المتطوعة وسوف يفترقون عنه في منتصف الطريق، فكانت خطة جوسلين الشيطانية في غاية الإحكام.

 

انسحب بلك إلى مدينته خرتبرت، وكان التركمان يتفرقون عنه عائدين إلى عشائرهم حتى لم يبق معه إلا فرسانه وكانوا 400 فارس فقط. وكان جوسلين قد تحرك بقواته خلف بلك ويتحين الفرصة للانقضاض عليه. وبفضلٍ من الله رأى أحد التركمان البدو في تلك المناطق جيش فعرفه من الرايات أنه للصليبين وكان يقترب من بلك ورجاله، فذهب هذا التركماني سريعاً إلى بلك وأخبره بما رأى، ففهم بلك أن جوسلين أراد مباغتته فغير طريقه بطريقة غير ملفتة وذهب إلى منطقة مليئة بالطين والوحل وتظاهر بلك ومن معه بالتعب وبأنهم سيعسكروا هناك.. فلما رأى جوسلين التركمان متعبين سال لعابه للصيد. فصاح بالهجوم وخرجوا من خلف التلال وكان جيشه كبير العدد لكن معظمه من المشاة بعكس رجال بلك فكانوا كلهم فرسان. وكان الوحل والطين كثيفاً فلم يعد الفرنجة المشاة يستطيعون الركض فاصطادوهم التركمان بالسهام صيداً. وكان رمي السهام سلاح الأتراك المفضل، ولا ينافسهم فيه أحد بعكس ما يصوره مسلسل "قيامة أرطغرل" عن براعتهم بالسيف حيث لم يكن السيف مشهوراً بينهم ولا يتميزون به.

 

أبيد مشاة جيش الفرنجة بالكامل، وأسر الأمير جوسلين ومعه ابن خالته الأمير كيليام، ونجحت خطة الوحل لبلك نجاحاً باهراً. طلب بلك من جوسلين تسليم مدينة الرها، فرد جوسلين بأنه لم يعد يملك السلطة لفعل ذلك لكنه عرض على بلك الأموال والذهب فداءً لنفسه فرفض بلك عرضه ووضعه وابن خالته في جلد جمل وخاطه عليهم حتى لا يهربون. وأخذهم معه إلى خرتبرت وحبسهم في سجن قلعته.

 

وبعد شهرين من هذا الحدث صعدت روح إيلغازي إلى بارئها وتمزقت إمارته بين أبنائه. واستطاع بلك السيطرة على خرتبرت ومنع أي تمرد بها.. وفي تلك الأثناء استطاع الملك الصليبي بلدوين الثاني الذي كان ملك مملكة بيت المقدس وأمير انطاكيا في آن واحد أن يضم إمارة الرها إليه بعد أُسر أميرها جوسلين. وكان يعلم أن بلك الأرتقي هو الخطر الأكبر عليه. فصار يهاجم مدينة حلب ويضغط على حاكمها الضعيف سليمان بن عبد الجبار ابن عم بلك كي يطلب هدنة معه فيتفرغ هو لحرب بلك بن بهرام. واستمر بلدوين يضغط عليه حتى طلب سليمان الصلح والهدنة. بل وأعطاه أحد الحصون هدية له كدليل على صدق نيته في الصلح.

  undefined

 

حصل الملك بلدوين على ما أراد. وخلى له الجو مع بلك.. وأراد أن ينتهي منه ليصبح أقوى حكام المنطقة. فأعد جيشاً كبيراً وتوجه إلى بلك الذي كان وقتئذٍ يحاصر مع رجاله أحد حصون الصليبين، فكان بلدوين ينوي ضرب عصفورين بحجرٍ واحد. إنقاذ الحصن والقضاء على بلك ورجاله. وصل خبر تحرك بلدوين إلى بلك أثناء الحصار فرفعه وذهب إلى منطقة تسمى أورش. وعسكر فيها انتظاراً لجيش بلدوين. وما إن وصل بلدوين حتى التحم الجيشان: الفرنجة بعنجهيتهم ضد التركمان بحميّتهم. وحمي الوطيس، وأفرغ الله على التركمان صبراً مكّنهم من كسر الصليبين وانتصر التركمان وفر الصليبيون. وأُسِر الملك بلدوين وأخذه بلك إلى السجن في قلعته بجوار جوسلين وكيليام.

 

كان لانتصار بلك دويٍ كبير. فقد أصبحت إمارتي الرها وأنطاكيا ومملكة بيت المقدس بدون حاكم. وفرح المسلمون بالانتصار. وعمّت الأفراح معظم المدن الإسلامية. وأصبح بلك بن بهرام أمل الأمة ورمزاً للجهاد على الساحة. وانتشرت أخباره في كل مكان. فقد تمكن من صيد ملك وأميرين في 7 أشهر فقط.

 

استغل بلك انتصاره. ووسع إمارته بضم حلب من ابن عمه الضعيف وبضم مدينة حرّان فصار أقوى حكام المنطقة. وبدأ يهاجم مدينة أنطاكيا لتحريرها من الصليبيين. لكن في أثناء قتاله عند أنطاكيا جاءه خبر أغضبه بشدة، وكان الخبر مفاده أن نصارى مدينة خرتبرت قد تمردوا وحرّروا بلدوين وجوسلين وكيليام وهربوهم مع فرقة عسكرية صليبية، فانسحب بلك سريعاً من أنطاكيا إلى حلب. وترك جيشه هناك وأخذ معه بضعة فرسان وانطلقوا سريعاً كي ينقذوا الموقف.

 

قطع بلك الطريق على الفرقة الصليبية. واشتبكوا معهم. وما هي إلا سويعات حتى انتصر التركمان وفر الصليبيون. وأُسِر الملك بلدوين مرة ثانية، واستطاع الأمير جوسلين وكيليام الفرار، وأخذه بلك معه إلى حلب كي يبعده عن المدن ذات الكثافة المسيحية وسجنه هناك. ثم أخذ بلك جيشه وانطلق إلى حصن منبج وحاصره. وفي أثناء الحصار.. كان بلك يشرف على تركيب المنجنيق لقصف الحصن فجاءه سهم طائش لم يُعرف من أطلقه واخترق رقبته فخرّ شهيداً مباشرة رحمه الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.