شعار قسم مدونات

الموتُ أعظمُ الفقد

blogs - جبانة 1

العقلُ مناطُ الإدراك، وبالقلب تتأرجحُ مشاعرُ الفطنِ وقليلِ الذكاء، والقلبُ والعقلُ يتسارعان في أمورٍ شتى فيصرعُ أحدهما الآخر في أمورِ الحياة وتصاريفِ الدُنيا، اللهم إلا ساعةَ الفِراق، فإن ما يُبتلى بهِ المرءُ من فِراقِ أحد ممن يُحب لأشقى على النفسِ من كُلِ مُر، ساعتها.. لا يُقبلُ العقلُ بأمرِ الفقدِ هكذا، ولا يستعيضُ القلبُ بالمفقودِ جديدًا يُكملُ عنهُ مشوارَ الدُنيا، بل يتناحرُ الاثنانِ وكأنَ واحدًا منهما اختصَ بالأمرِ دونَ أخيه، فتشقى الجوارِحُ بهما ويبيتُ الجسدُ ليلتهُ شقيًا ولا يصحو ناسيًا.

ويستوي في ذلكَ جميعُ البشر، فعمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، حينما عظمت عنده مصيبةُ فقدِ النبي صلي الله عليه وسلم في المدينةِ، سلَّ سيفهُ وانتوى أن يقطعَ عُنقَ من تُسوِلُ نفسهُ أن ينطَقَ بموتِ النبي، وهو عُمر، الذي لهُ من الدهاءِ والفطنةِ والحكمةِ ما له، لكن عظمَ المصيبةِ أعماهُ عن إعمالِ العقلِ ساعة موتِ النبي، فطفق يقولُ كلماتهِ تلك: من قال إن محمدًا قد ماتَ حتى أقطعَ عنقه، إنما تجلى اللهُ لمحمدٍ فخرَ صعقًا كما خرّ موسى.. إلى أن نهرهُ أبو بكر، وتلا عليه قول الله "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ" فعادَ أدراجهُ وخارت قُواهُ وقال أهي في كتابِ الله؟ 

نحنُ نُحب ونتعلق ونفارق ونفترق، وتأخذنا الحياةُ أحيانًا إلى مصائرَ غيرَ التي نحب، ونعلمُ أن الحياةَ منفاتة، وندركُ الموتَ هو نهايةَ السعادةِ والشقاء، والكدرِ والهناء

لم يسم اللهُ أمرًا في القرآن بمصيبةٍ أبدًا وإنما عدَّ هزيمةَ أحدٍ بالبلاء، ونقصُ الأموالِ والجوعِ كذلك، لكنهُ سبحانهُ لما ذكرَ الموتِ قال "مُصِيبَةُ الْمَوْتِ" وهو الفقدُ الأعظمُ الذي لا يجد معهُ قولٌ غير أنهُ مصيبة، ولا يستوي ذكرهُ بهينٍ من أنواعِ البلاء، ذا لأنهُ الموت، وهل ثمة ما يهابُ المرأُ أعظمَ من الموت! أنا لا أهابُ الموتَ لنفسي، بقدرِ ما أهابهُ لذويَّ، لا أستطيعُ الحياةُ دونّهم، لا أستطيعُ تقبُلَ الأمرِ أصلًا، وبقدر ما أستطيعُ الكلام، إلا أن الكلامَ يتحشرجُ في حلقي حينَ عزاءِ أحدهم في قريبٍ له، لا أستطيع، ولا تكفي الكلماتُ.. الموقفُ كفيلٌ أن يمنعَ اندلاقِ الكلامِ من فمي، أو يحبس المدادُ من قلمي، فلا أقولُ غير إن للهِ ما أخذ ولهُ ما أعطى، ولا تُسعفني أي كلمةٍ أخرى لأزيد في موقفي ذاك، فيفهمُ المتلقي أنني انحبستُ أو انعقد لساني، وكأني أجرهُ جرًا أو أزحزحهُ لينطقَ فلا يفعل.

"لماذا ذهب أبي إلى الجنة؟" كان هذا سؤالُ أحد الصبيةِ لمعملتهِ في مرحلة الحضانة، تقولُ أنها أحجمت عن الإجابة فلم ترد على بنيها للحظات، لكنها عادت وتداركت نفسها، فسألته، وهل تفتقده؟ أجابها والدمعُ يترقرقُ من مقلتهِ نعم، قالت أن الله إذا أحبَ عبدًا اختارهُ إلى جوارِه، واللهُ يحبُ أباك يا بُني، ليُقاطِعها الصبي فيقول وأنا أحبُ الله، فهل لهُ أن يختارني إلى جوارِه وبجانبِ أبي! هُنا انعقدَ حلقُ صاحبتنا، وآثرت أن تكتُمَ دمعها أمام الصبي لألا ينفرط، فلم تجبه وعانقته، ثم صرفته على وعدٍ بتكرار الكلامِ في الصدد ذاته. هذا الفتى سيكبُر وسيبدو عليهِ الشيبُ عاجلًا أم آجلًا، وسيدرُكَ أن أجلَ أباهُ قد حان، فلا مناصَ من الأجلِ ولا مفر، لكنهُ سيظلُ يحملُ لأباهُ القدرَ نفسهُ من الحُبِ أبدًا، وإن لم يستظلَ بهِ إلا أيامه الأولى.

نحنُ نُحب ونتعلق ونفارق ونفترق، وتأخذنا الحياةُ أحيانًا إلى مصائرَ غيرَ التي نحب، ونعلمُ أن الحياةَ منفاتة، وندركُ الموتَ هو نهايةَ السعادةِ والشقاء، والكدرِ والهناء، لكنَ الإدراك يقصُرُ على الكِتابةِ فقط، وربما القول، لكنهُ حين الإتيانِ إلى مصيبة الموت، يصبحُ القلب مثقلًا والرأسُ ثكلى، والعقلُ خائرُ القوى ضعيفُ الحيلة، وكأنهُ لم يسمع بميتٍ ولم يعرف للأمواتِ حالًا قبله، ثم تنجرفُ أحاسيسهُ ومشاعرهُ رفقةَ الزمانِ فينسى، إلى أن يصيبهُ الدورُ فيبكي ذووهُ كما فعل، ولا بكاؤه نفعَ فقيده، ولا بكاؤهم ينفعه.. الموتُ قدرٌ ومصيبةٌ لا تلتفت يومًا لأحد، لا يخفى الحبُ على المُحبِ ولا يخفى عظمِ المصيبةِ لديه، فهل ثمةَ مصيبةٌ أعظم من الموت؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.