شعار قسم مدونات

العدالة الجنائية بين المواثيق الدولية والتشريع الجنائي المغربي

blogs قاعة محكمة بيكسا باي

تهدف العدالة الجنائية إلى أن يتمتع الإنسان بضمانات معينة، سواء في مرحلة التحقيق الإعدادي، أو أثناء المحاكمة، بمعنى أن التشريع الجنائي لكل دولة يجب أن يحترم ويضع هذه المعايير في حسابه، حيث تستمد دولة القانون مشروعيتها من مدى قدرتها على تحصين حريات وحقوق الأفراد في مواجهة أجهزة العدالة الجنائية، وبهذا المعنى فإن حقوق الدفاع وضمانات المتهم، تعد إحدى مظاهر الخروج من حالة الطبيعة التي ترتكز على القوة والغلبة إلى حالة الثقافة المؤسسة على العقد الاجتماعي.

ومن هنا جاز القول: بأن المحاكمة العادلة التي تحترم المعايير الدولية التي نصت عليها حقوق الإنسان دليل على صحة الجسم القضائي لدولة ما واحترام حقوق الإنسان فيها، وعلى النقيض من ذلك، فإن تجاهل تلك المعايير يدل على تعفن الجسم القضائي وانتهاك صارخ لحقوق الانسان، مع العلم أن هناك نصوص دولية ملزمة في هذا المجال سواء كانت اتفاقية، أو عرف، أو مبادئ عامة للقانون تتضمن مقاييس ومعايير وعناصر المحاكمة العادلة، والغاية الأسمى من هذه النصوص، هي حماية حقوق المتهم من تاريخ اعتقاله إلى أن يستنفذ طرق الطعن الممكنة قانونا ضد الحكم الصادر ضده.

ولمسايرة مجال حقوق الإنسان في العالم، كان إلزاما على الدول أن تنخرط في هذا الركب الحضاري، ولا سيما دول العالم الثالث التي تفتقد مثل هكذا مبادرات، ومن بين الدول التي ارتأت أن تحذو حذو الركب الحضاري، المملكة المغربية التي صادقت ووقعت على اتفاقيات دولية مع إبدائها مبدأ التحفظ من بعضها، وذلك كله من أجل ترسيخ بناء دولة الحق والقانون باستحضار تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وقيم المجتمع المغربي، ومن بين المواثيق الدولية التي اعتمدتها الدولة المغربية وصادقت عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بظهير رقم 4-78-1. الصادر في 27 مارس 1979 ودخل حيز النفاذ وطنيا في 3 غشت 1979 وصدر في الجريدة الرسمية عدد 3525 بتاريخ 21 ماي 1980.

المحاكمة العادلة هي المحاكمة التي تستوجب مقاضاة المتهم بشأن الاتهام الموجه إليه أمام محكمة مستقلة محايدة منشأة بحكم القانون يتاح له من خلالها الدفاع عن نفسه

بناء على ما سبق، يقودنا إلى طرح إشكالية مفادها: ما هي أهم مظاهر العدالة الجنائية في حقوق الإنسان؟ وإلى أي حد تماشى المشرع الجنائي المغربي مع مقتضياتها؟ للإجابة عن هذه الإشكالية، يستوجب علينا تتبع التصميم الثنائي، وذلك ما استطعنا إليه سبيلا، حيث سنركز حديثنا في المطلب الأول: عن مظاهر العدالة الجنائية في مجال حقوق الإنسان، وفي المطلب الثاني: ملاءمة التشريع الجنائي المغربي للمواثيق الدولية. 

المطلب الأول: مظاهر العدالة الجنائية في مجال حقوق الإنسان

من المعلوم أن دعائم العدل تقوم على احترام حقوق الإنسان، وهذا ما أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديباجته التي جاء فيها (…. أن الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم من حقوق متساوية وثابتة يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم فمن حق الإنسان أن يتمتع بحقوق أساسية لا يجوز للتشريعات الوضعية أو لممارسات الحكام أن تخالفها أو تعتدي عليها أو تنتقص منها…)، كما أن حلقة المحاكمة تتكون من ثنائي الخصوم مشتكي ومشتكى به، وقاضي يفصل بينهما بما يمتلكه من حجج وبراهين، يبني عليهما حكمه -محاولا ضمان حقوق الجميع، وبدرجة أكثر المتهم الموضوع في سلاسل التهم الموجهة إليه- بدون تشديد ولا ليونة، حفاظا على ضمانات المتهم التي منحته المواثيق الدولية (الفقرة الأولى) مع احترام آليات تحقيق العدالة الجنائية من لدن المحكمة الناطقة بالحكم (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: ضمانات المتهم أثناء المحاكمة

إن المحاكمة العادلة هي المحاكمة التي تستوجب مقاضاة المتهم بشأن الاتهام الموجه إليه أمام محكمة مستقلة محايدة منشأة بحكم القانون يتاح له من خلالها الدفاع عن نفسه مع تمكينه من الطعن في الحكم الصادر ضده بالطرق العادية وغير العادية حسب ما تقتضيه الحالة حينئذ، وهذا الحق يتفرع عنه عدة حقوق تشكل ضمانات للمتهم في مرحلة التقاضي كونها وردت في كافة المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ومن بين الضمانات التي كفلتها هذه المواثيق علانية المحاكمة، أي الحق في النظر العلني للدعاوي الجنائية، وهو حق مكفول بموجب المادتين 10 والفقرة الأولى من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث جاء في المادة 10 ما يلي:

 

(لكلِّ إنسان، على قدم المساواة التامة مع الأخرين، الحقُّ في أن تَنظر قضيتَه محكمةٌ مستقلَّةٌ ومحايدةٌ، نظرًا مُنصفًا وعلنيًّا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أيَّة تهمة جزائية تُوجَّه إليه)، فهذه المادة جاءت صريحة في متنها تؤكد على علانية المحاكمة ضمانا لحقوق المتهم ودون المساس بها، كما جاءت الفقرة الأولى من المادة 11 من الإعلان نفسه، لتزكي هذا المعطى كما يلي:(كلُّ شخص متَّهم بجريمة يُعتبَر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابُه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميعُ الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه)، بالإضافة إلى كون الفقرة السالفة الذكر، تضم ضمانة أخرى إلى جانب ما سبق، وهو مبدأ قرينة البراءة، أي أن الإنسان بريء إلى أن تثبت إدانته بحجة قطعية.

تعتبر المحكمة هي الوعاء الذي يضم الصراع بين متخاصمين لنيل حقوقهما، والقاضي هو الكفيل لحقوقهما داخل هذا الوعاء
تعتبر المحكمة هي الوعاء الذي يضم الصراع بين متخاصمين لنيل حقوقهما، والقاضي هو الكفيل لحقوقهما داخل هذا الوعاء
 

ومن أجل تزكية هذه الضمانات وترسيخها في نظرية التقاضي، كان إلزاما أن تتم إجراءات المحاكمة بشكل شفوي، مما يستوجب أن تدور إجراءات المحاكمة جميعا بصوت مسموع، حتي ولو كان لهذه الإجراءات أصل ثابت ومكتوب، وهي ضمانة لحق المتهم في محاكمة عادلة، لأن ذلك يمكنه من الإلمام بالأدلة المقدمة ضده، ويتيح له دحض ما اتهم به، وهذا ما نص عليه الإعلان العالمي في المادة 11 ونص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 14، ناهيك من تمكين أطراف الدعوى الجنائية من حضور جلسات المحاكمة، وتقديم كل منهم ما لديه من أدلة، وتمكين الآخرين من الاطلاع عليها ومناقشتها وتقديم ما يعتقدون أنه داحض لها حتى يتميز الحق من الباطل.

 

وتبقى من بين الضمانات أيضا التي تكفلها المواثيق الدولية، المساواة بين الخصوم أمام القضاء، ويقصد بهذا المبدأ المعاملة بغير تمييز، بمعني أن تخلو القوانين من التمييز، وأن يبتعد مطبقي ومنفذي القانون عن أي تمييز بين إنسان وآخر، إذا، كثيرة ومتعددة ضمانات المتهم أثناء المحاكمة، لذلك سنتعرض إلى بعضها على وجه الإيجاز، من ذلكم مثلا ضمان حق المتهم في المحاكمة حضوريا، وحضوره جلسات الاستئناف، وضمان حقه أيضا في الاستعانة بالترجمة إذا كان لا يدرك لغة العمل في المحكمة، وحقه في الدفاع عن نفسه بواسطة دفاعه، هذه الحقوق وغيرها هي ضمانات متعلقة بالمتهم، وهي معايير دولية كرستها المواثيق والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، كآية على العدالة الجنائية.

الفقرة الثانية: آليات تحقيق العدالة الجنائية تتعلق بالمحكمة
معيار استقلال السلطة القضائية عن التحكم الخارجي، هو معيار وعنصر دولي يجب توافره في المحاكمة لكي تتصف بالعدالة، وفي أبسط معانيه، هو عدم تحيز المحكمة لطرف على حساب آخر

تعتبر المحكمة هي الوعاء الذي يضم الصراع بين متخاصمين لنيل حقوقهما، يمكن وصفهما بالمشتكي والمشتكى به، والقاضي هو الكفيل لحقوقهما داخل هذا الوعاء، وبما أن سيد القاضي خول له القانون صلاحية النظر في النزاع، واستبيان الحجج والبراهين لدحض التهم أو إثباتها، وإنصاف المتخاصمين وتحقيق العدالة المرجوة منه، فإن المواثيق الدولية أوجبت أن تتوفر فيه والمحكمة عناصر وشروط تراعي المعايير الدولية لتتصف المحاكمة الجنائية بالعدالة، فإضافة إلى الضمانات التي منحتها المواثيق الدولية للمتهم، فإن المحكمة أيضا يجب أن تتوافر فيها معايير المحاكمة العادلة، وهي متعددة ومتنوعة لا يسمح المقام والمقال بذكرها كلها.

 

لكن إعمالا بالقاعدة ما لا يدرك كله لا يترك جله، سنكتفي بذكر ما نراه أساسيا في هذا المجال، فمن ذلكم الاختصاص، وهو معيار يحدده القانون الداخلي لكل دولة، وضمانة أساسية للتمتع بمحاكمة عادلة كحق من حقوق الإنسان، وقد ورد النص عليه في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وفي الإعلان العالمي لحقوق الانسان.

 

من بين المعايير التي لا تقل أهمية عما سبق، معيار استقلال السلطة القضائية عن التحكم الخارجي، وهو معيار وعنصر دولي يجب توافره في المحاكمة لكي تتصف بالعدالة، وفي أبسط معانيه، هو عدم تحيز المحكمة لطرف على حساب آخر تراعي في ذلك الحسب والنسب، بل يعني ممارستها لوظيفتها بشكل لا يخل بطابع الاستقلال، بالإضافة إلى معيار الاستقلال يوجد معيار حياد السلطة القضائية، وهذا المعيار ينصرف بشكل كبير إلى حياد السادة القضاة لجهة أخرى وعدم تبعيتهم للسلطة القضائية أو لما تنص عليه القوانين، ولا شك فإن عدم مراعاة هذا الشرط، يطعن في عدالة المحكمة، وفي نزاهة استقلال السلطة القضائية، وتكون بذلك قد خرقت سياج العدالة الجنائية التي سعت إليها التشريعات الدولية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.