شعار قسم مدونات

التفوق الدراسي.. غاية أم وسيلة؟

blogs الغش بالامتحانات

غالباً ما تكون لحظة إعلان نتائج امتحان الثانوية العامة في بلادنا لحظة توتر وترقب عند الطالب نفسه، وعند ذويه، وعند بقية المجتمع، وتكون العلامة – ذلك الرقم الذي سيرتبط باسمه طول عمره- هي الفيصل في اختيار التخصص الجامعي، والمهنة التي سيكونها ذلك الطالب في المستقبل، وقد يؤثر فرق ضئيل جداً لا يتعدى العُشر من العلامة النهائية على اختياره وقبوله، وقد تحول علامة أعلى من اللازم قليلاً بين الطالب وحلمه، فالأهل يريدون التخصص الذي يناسب المستوى لأن فلان حصل على أقل من علامته وهو يدرس في تخصص "أعلى" من الذي يرغب به، وبين هذا وذاك تضيع الكثير من الطاقات المتفردة التي كان يتوقع منها أن تكون وقود الجيل القادم وسر نهضته وانبعاث حضارته .

ولأجل تلك اللحظة الفارقة يحرص الأهل على تعويد أبنائهم منذ نعومة أظفارهم على حصاد أكبر قدر ممكن من العلامات، ويعرضون أنفسهم وأطفالهم للضغوط طوال اثني عشر عاماً من الدراسة في المدارس -وقد تصل إلى خمسة عشر إذا أخذنا بعين الاعتبار سنوات رياض الأطفال!- لينافسوا الآخرين ويحصلوا على التفوق الدراسي، ولتتباهى الأم أمام صديقاتها وقريباتها بطفلها البطل الذي لا يشق له غبار في الحصول على أعلى العلامات، وليرفع الأب رأسه أمام الجميع لأن ابنه "الشبل الذي من ذلك الأسد" استطاع أن يحصد أعلى المراتب في المدرسة ويتفوق على أقرانه في كل شيء، وهكذا يشعر أهل الطالب الأقل حظاً بالإحباط والدونية وربما يصبون جام غضبهم على الطفل "الفاشل" فيزيدونه نفوراً من العلم والتعليم، وربما تصالحوا مع أنفسهم في أحسن الأحوال وبرروا للمجتمع أن طفلهم خُلق بعقل ناقص أو بقدرات محدودة وهذا أقصى ما يستطيع إنجازه والحصول عليه.

ولا شك أن تربية الطفل على أساس من المنافسة والمفاضلة سينتج تركيبة نفسية عدوانية ضد الأطفال الآخرين، أو مترفعة عن البقية، أو مسحوقة بحيث يرى نفسه أقل من الآخرين وأنه لا يستحق ما يستحقونه، وبذلك يكون هؤلاء الأطفال علاقات اجتماعية غير متوازنة أساسها الفروق والمفاضلة، وتفتقر إلى روح التعاون والتآلف والمشاركة، ويشبون على علاقات صداقة غير متينة أساسها المصلحة أو السيطرة، وعلاقات عمل غير مريحة تتسم بالاستغلال أو الشعور بالظلم، وقلة هم من يتجاوزون هذا ويصبحون ناجحين في الحياة ومتعاونين وسعداء، دون أن يكون لنجاحهم أي علاقة بتفوقهم في المدرسة.

 

وجدت المدرسة لتنقل الأجيال من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن وحل التأخر إلى ميادين التقدم والازدهار، ويجب أن يقتنع واضعوا المناهج أنهم يرسمون خارطة طريق لجيل كامل

والسؤال هنا: لماذا يسعى الأهل ليتفوق أبناؤهم دراسياً؟ ستقفز كثير من الإجابات مفادها أنهم يريدون لهم أن يكونوا منضبطين ليكونوا ناجحين في الحياة وسعداء ويدرسوا تخصصات رفيعة في الجامعة ليحتلوا مراكز اجتماعية راقية ويحصلوا على المال الكافي ليعيشوا بكرامة، ولكن بعد كل الجهود والضغوطات يصل جزء يسير إلى الهدف الذي رسمه لهم آباؤهم، وجزء يسير جداً منهم يكون مرتاحاً وسعيداً لما توصل إليه، ومع تطور الحياة والانفتاح الثقافي والمعلوماتي الكبير يمعن الأهل في سلوك ذات الطريق، مع تركيز أكبر على الأرقام والأعشار، وتركيز أقل على الإنجاز الحقيقي والإنسان.

أما المدرسة فلا شك أن لها دوراً كبيراً في هذه الظاهرة، فيعطى الطالب منهاجاً محدداً يجب أن يتمه له مدرسه في وقت محدد، ويلقنه المعلومات بطريقة محددة، ثم يختبره فيها، وقيمته في المدرسة بمقدار ما يحصل من درجات، حتى عندما تعقد المدرسة بعض الأنشطة اللامنهجية فإنه يتم تقديم الطلبة المتميزين في ارتفاع الدرجات ونادراً ما يتم دمج الطلبة الآخرين فيها، وهكذا تبتعد المدرسة عن الهدف الأساسي الذي وجدت لأجله، وتصبح ساحة معركة، كل طفل يحارب – وأهله – ليحصل على رتبة مرتفعة بين أقرانه، ليتم تكريمه في احتفال التفوق، كما أن بعض المدرسين أصبح يعمل كمقيِّمٍ فقط، وإذا لم يفهم الطالب أو يحفظ فإن اللوم يقع على العائلة، لأنهم لم يدرسوه بالطريقة الصحيحة، وبغض النظر عن خلفيات الأهل العلمية أو ظروفهم الحياتية، فإن مهمة التدريس الأساسية تقع على المدرس، ويساعد الأهل طفلهم في المذاكرة، وليس العكس، وهذه قضية يجب على المختصين إمعان النظر فيها .

وجدت المدرسة لتنقل الأجيال من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن وحل التأخر إلى ميادين التقدم والازدهار، ويجب أن يقتنع واضعوا المناهج أنهم يرسمون خارطة طريق لجيل كامل وليس لفئة من الناس ذوي القدرات العالية، ويجب أن يدرك المدرس أن التلاميذ سواسية، وأنهم لا بد يتفاوتون في قدراتهم، وأنهم جميعاً يستحقون أن يتعلموا ليكبروا وينخرطوا في الحياة، ويجب أن يعلم الأهل أن طفلهم أمانة عندهم وليس أداة لتحقيق أحلامهم الفائتة، فليحبوه كما هو، وليدفعوه إلى التعلم دون إفراط أو تفريط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.